العالم وفرنسا... أزمة حكم واقتصاد ويمين

 تحاول فرنسا، تلك القوة الدولية المعزّزة بترسانة نووية وحضور وثقل سياسي متراكم أن تستعيد هيبتها بعد الإخفاقات الكبيرة في الشرق الأوسط وأفريقيا، وخسارتها الكثير من الأدوار السياسية...

وحتى الحيثية العسكرية المتمثّلة بالسيطرة على دوائر القرار في القارة السمراء لوجود قواعد عسكرية لها تتحرّك من خلالها لدعم سريع في المناطق الساخنة التي تحاول التمرّد، أو لرفد سفن حربية في البحر الأحمر ربطاً مع بحر العرب والمحيط الهندي.

ففرنسا التي أدّت دوراً " إمبراطورياً" من خلال مشهديات عديدة خلال القرنين التاسع عشر ونصف القرن العشرين، بتوسّع وسيطرة ومستعمرات وحسم في الحربين العالميتين الأولى والثانية، نراها اليوم بعد فترة ديغول الذهبية ومحاولة الوصول إلى استقلال استراتيجي عن الولايات المتحدة في نهاية ستينيات القرن الماضي أو تشكيل "ناتو" أوروبي، وفي جزئية جاك شيراك وتبنّي قضايا الشعوب المستضعفة نوعاً ما، ومحاباة القضية الفلسطينية ومقاربته المختلفة حول "إسرائيل" كدور ووظيفة كمن يفتّش عن دور متمايز ولو حتى شكّلي ولكن داخل العباءة الأميركية، حيث نرى أميركا تتعامل مع فرنسا كقاعدة ضغط عسكري لإضعاف روسيا، ولحلّ مشكلات اقتصادية بالتعاون مع ألمانيا تخصّ القارة العجوز كانت تتولّاها بلاد العم سام. 

إن النظرة داخل الإدارات الأميركية المتعاقبة وخاصة الجمهورية إلى بلاد "الحرية والمساواة والأخوة"!! وهو شعار الجمهورية نظرة دولة عملاقة إلى دولة بحيثية محدودة دولياً، وخاصة بعد صعود اليمين من خلال شعار ترامب الشهير "أميركا العظيمة لا أميركا العظمى"، والذي يعني الاهتمام بالبنى التحتية والتعليم والجامعات ومنع تدفّق المهاجرين. وهو ما بدأ يتعمّم رويداً رويداً على أوروبا وخاصة في ظلّ أزمات اقتصادية تفتك بها مع تداعيات نازلة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وما تعانيه أصلاً من تضارب رؤى ومصالح بين شرقيّ القارة وغربها.

لقد رسمت أميركا معالم العالم بعد الحرب العالمية الثانية وبعد تفكّك الاتحاد السوفياتي عام 1991، وحدّدت لفرنسا هدفاً وهو مناكفة الروس في إطار جغرافيا سياسية واحدة، والتكامل معها في إطار الحرب الاقتصادية انسجاماً مع توجّهات مجموعة الدول الصناعية السبع.

تعاني فرنسا من وضعيّات مقلقة لا تخفى على أحد يمكن إيجازها:

أولاً: الإنفاق العسكري الكبير إن كان في العرض الذي نُظّم في اليوم الوطني الفرنسي في تموز/يوليو 2023 حيث ظهرت هليكوبتر من نوع "كوبارد"، والذي تعاقدت عليها الدولة الفرنسية مع شركة إيرباص الأوروبية في أواخر 2021 في صفقة قيمتها 10 مليارات يورو، وفي السنة نفسها ظهرت المدرّعة "سيرفال" وزاد الإنفاق أكثر فأكثر، وقبل العرض العسكري وافق البرلمان الفرنسي على زيادة هذا الإنفاق بنحو 413 مليار يورو، وهي أكبر زيادة في الإنفاق منذ نصف قرن وستستخدم هذه الأموال أيضاً لتحديث ترسانة فرنسا النووية والتفاعل الاستخباراتي.

ثانياً: تعاني فرنسا من عجز في الميزانية حيث وصل في 2023 إلى 154 مليار يورو، وهو يعادل 5.5 % من الناتج المحلي الإجمالي، وفي معايير الاتحاد الأوروبي هذا عجز ضخم جداً.

ثالثاً: وصول فاتورة دعم الطاقة إلى 70 مليار يورو بعد الحرب الروسية الأوكرانية حيث ذكر رئيس ديوان المحاسبة بيير موسكوفتشي: "أنّ أزمتي الصحة والطاقة دفعتا ديننا العام إلى مستويات تاريخية". والوضع الحالي يثير مخاوف مشروعة حيث من المتوقّع أن تدفع فرنسا هذه السنة أكثر من 50 مليار يورو كخدمة دين. كما خُفّض التصنيف الائتماني لفرنسا عن طريق ستاندرد أند بورز من أأ إلى أأ- بسبب تدهور وضع الميزانية.

رابعاً: يحاول ماكرون دفع الاتحاد الأوروبي لمضاعفة ميزانية الاتحاد عن طريق القروض الأوروبية المشتركة وهو ما قاله في درسدن عند زيارته لألمانيا: "نحن بحاجة إلى صدمة استثمارية لنواجه التهديد الوجودي والتحديات.

خامساً: وسائل الإعلام الفرنسية والتي أصبحت في أكثريّتها الساحقة في قبضة الأوليغارشية وتطلق النار باستمرار نحو اليسار..

سادساً: صعود اليمين في فرنسا حيث خسرت أفريقيا، وأوروبا مقبلة على حرب باردة على الرغم من أنّ اليمين لن يحصل على أغلبية المقاعد واليسار أيضاً، ويمكن أن تقبل فرنسا على أزمة حكم أو على الأقل أزمة إدارة..

بناء على ما تقدّم، يبدو أن العالم مقبل على توترات سياسية عسكرية بتداعيات اقتصادية، والرؤى بين الدول التي تتقاطع استراتيجياً قد تتعارض من الناحية التكتيكية، سواء بمقاربات اقتصادية أو في إطار إيجاد حلول لمناطق الصراع والنفوذ في آسيا وأفريقيا مع صعود اليمين قولاً وفعلاً ومعنىً ومبنى... فهل سنشهد ولادة جديدة لدول تعيد التفكير باستقلال استراتيجي فعليّ وحقيقيّ عن الأميركي أم ستبقى أضغاث أحلام؟ مقبل الأيام سيشهد...

سامر كركي – إعلامي وكاتب لبناني