أزمات الغرب المستعصية إزاء الدول النامية

 يمرُّ الغرب في واحدة من أكبر أزماتِه (الفكريّة والسياسيّة) منذ الحرب العالمية الثانية.

 قد لا يبدو أن هناك أزمة في بلاد الغرب، إذ إنّ السيطرة العالمية على مقدّرات الكون من قِبل هذا الحلف لا تزال مُحكمة، ولا يهدّدها للساعة منافسٌ بحجمِها. إنّ المشروع الفكري والسياسي للغرب يعاني من تناقضات وإفلاس جديديْن. 

ما جرى في السنتين الماضيتين في أوكرانيا وفلسطين، بالإضافة إلى التطوّرات السياسية الداخلية في دول الغرب قضى، وإلى الأبد، على أعمدة الدعاية السياسية للغرب - والتي كانت أساسيّة في تقويض النظام الشيوعي العالمي. 

دولُ الغرب، حتى تلك التي كانت خاضعة للحكم المحافظ في إيطاليا أو غيرها، قدّمت الليبرالية الغربية كبديل أخّاذ للأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية وفي غيرها من دول المنظومة الشيوعيّة. 

وصدّق سكّان الوكب، بمن فيهم سكّان عالمنا العربي، أكاذيب الليبيرالية الغربية بعد تحويلها إلى مثالٍ في المتناول. برنامج الدعاية السياسية الغربي، والذي أسهمت فيه شركات الإعلان في نيويورك وأفلام هوليوود، أعطى صوراً جذّابة وآسرة عن العيش في الغرب، وكان من الصعوبة مقاومتها. 

وبقدر ما نجح الغرب في الكذب والخداع والرياء في تصوير المجتمعات الغربية للعالم، فإنّ دول المنظومة الشيوعية فشلت فشلاً ذريعاً في تصوير الحياة والمجتمع في تلك الدول (بما فيها من حسنات). 

ينسى البعض أنّ أكثريةً في روسيا في التسعينيّات عبّرت عن تفضيلها للنظام الشيوعي على الفوضى والاحتكار اللذان أنتجهما التغيير الرأسمالي هناك.

 تعود إلى أفلام الخمسينيّات والستينيّات الأميركيّة ولا ترى أثراً للقهر العنصري أو لقمع المرأة والأقلّيات في المجتمع الأميركي. 

الصورة لَم تكن مرتبطة بالواقع بل استندت إلى مجتمع متخيّل يفيدُ موقع أميركا في مواجهتها للاتحاد السوفياتي.

 أمّا الاتحاد السوفياتي، فكان يصوّر الواقع كما هو متناسياً أنّ الخيال والتزوير هما ما أضفى جانباً مُشرقاً على الحياة الرأسمالية في بروباغاندا دول الغرب. 

ما رآه وصوّره عامر محسن في زيارته الأخيرة إلى إيران يختلف كلّياً عن تصوير إيران في إعلام الغرب والعرب. 

لا نرى عن إيران إلّا صوراً رماديّة بائسة وداكنة، لا إشراقَ فيها.

 لا ترى حتى ناطحات السحاب في طهران في كل الصور التي ينشرها إعلام الغرب والعرب. 

هذا مقصود. فريق دول الغرب في حالة انحطاط ذريعة ليس فقط بسبب التحدّي الذي تواجهه الهيمنة الغربية في العالم وإنما بسبب التآكل الداخلي الذي 

يعتملُ في المجتمعات والأنظمة السياسية الغربيّة. ومن معالم هذه الأزمة، التالي:

أوّلاً، انتقلت المروحة السياسية بأكملها نحو اليمين فتغيّرت كل الأطروحة السياسية الأيديولوجية. ويسري هذا التحوّل على إسرائيل كما على الدول الأوروبية. 

حزب العمل الإسرائيلي أصبح بالكاد يتمثّل في الكنيست بينما كان هو الأكثرية من عام 48 حتى عام 77. الوسط اليميني (أو ما كان يُسمّى باليسار) أصبح وسط اليمين واليمين تحوّل إلى أقصى اليمين وأقصى اليمين أصبح اليمين المتطرّف وهكذا دواليك. 

كان النموذج يجذب الشباب لأنه كان يقدّم البضاعة اليسارية والليبرالية، وهذه البضاعة كانت تطرح نفسها على أنها أكثر عدلاً وحرّية من نموذج الاشتراكية الذي كان سائداً في دول أوروبا الشرقية. 

المصطلحات لم تعد كما كانت: لا يستطيع اليمين الفاشي في أوروبا أو في إسرائيل أن يتباهى أمام الرجعية اليمينيّة في الدول النامية. 

  حزب العمّال البريطاني تأسسَّ على مبادئ الماركسية وهو اليوم، مثل الحزب الديموقراطي الأميركي، حزبٌ يمينيٌّ رأس ماليّ رجعيٌّ ينافسُ اليمين في اليمينية. جو بايدن، أو من لفَّ لفّه لإدارته شخصيّاً، تشدّدَ في التعاطي مع المهاجرين لأنّ اليمين الفاشي المتمثّل بترامب جعل من محاربة المهاجرين القضية المركزية في البرنامج الانتخابي. نستطيع أن نقيسها ديموغرافياً: 

هناك عدم اتساق بين التحوّل نحو اليسار من قِبل الشباب في دول الغرب (خصوصاً في أميركا) والصعود الهائل لليمين الفاشي بأوجه متعدّدة في دول الغرب.
 
أي إنّ النظام السياسي بات يمثّل المتقدّمين والكهلة في السنّ ويفتقرُ إلى المشروعيّة أمام الشباب. والصراع حول فلسطين في دول الغرب هو حول هذا التناقض. 

أي إنّ النظام السياسي الغربي يصرّ على تبنّي المشروع الإبادي الصهيوني بالكامل بصرف النظر عن تطلّعات الشباب، وحتّى أحياناً الرأي العام الأوروبي الذي يتعاطف مع فلسطين أكثر من إسرائيل. 

ويصعبُ تصدير البرنامج الفاشي الغربي للدول النامية وهو يحمل مضامين وقيماً عنصرية وإسلاموفوبيّة متزمّتة ورجعية دينيّة. ليسَ هذا هو المثال الذي أحرج الأيديولوجيا الشيوعية أثناء عقود الحرب الباردة.

ثانياً، تعاني دول الغرب من أزمة قيادة. لَم يعد النظام السياسي يجذبُ قيادات ذات كفاءة معهودة. بصرف النظر عن السياسة، 

إنّ الذين كانوا يترشّحون للرئاسة في سنوات الثمانينيات والتسعينيات في أميركا مثلاً كانوا متفوّقين في مستوى الكفاءة والصفات والتجربة عن الذين يخوضون المعركة اليوم. 

حتى جو بايدن، لَم يكن يحظى بأي تأييد يذكر في الثمانينيات والتسعينيات لأنه اتُهم مبكراً بالنفاق والكذب وحتّى السرقة الأدبية.

 إنّ قدرة جو بايدن على الفوز بترشّح الحزب الديموقراطي في 2020 دليل على عدم توافر الكفاءات البديلة. 

وغياب الكفاءات والقدرات في الصفّ الأوّل في الحزبين يعودُ إلى حدّة الصراعات الداخلية والخوض في الحياة الشخصية للمرشّحين في شكل لَم يعهده النظام السياسي من قَبل. 

وأصبحت الحياة السياسية للزعيم في أي من الحزبين في الكونغرس أقلّ مدّة ممّا كانت عليه بسبب الضغوطات التي يتعرّض لها من قِبل أعضاء الحزب الذين يتوقّعون مزيداً من التصلّب والتشدّد الأيديولوجي. 

والانتخابات في بريطانيا، وخصوصاً الانتخابات الحالية في أميركا، شكلٌ من الأزمة: هي (في أميركا) مواجهة بين شخصيْن متقدّمين في السنّ وواحدٌ تعوزه الكفاءة وآخرُ يعوزه رجحان العقل.

ثالثاً، سقطت كل ادّعاءات القانون والمواثيق الدولية خلال أشهر فقط في حرب الإبادة في غزّة. 

لَم تكن الأحاديث والخطب عن القوانين والمواثيق والاتفاقيات الدولية عبر عقود الحرب الباردة ومن بعد إلا عصا غليظة تحملها أميركا بوجه كل مَن لا يتورّع عن معارضة الحروب الغربية. 

كانت أميركا تغزو الدول وتطحن مجتمعاتها (مِثل العراق) باسم الحرص الإنساني على تطبيق القرارات الدولية. 

طبعاً، كان هذا مجرّد ادعاء اعترف به جورج بوش في الكتاب الذي نشره مع برنت سكوكرافت بعد انتهاء ولايته («العالم المتغيّر»).

رابعاً، لم يكن النفاق وازدواج المعايير عنواناً للخطاب السياسي الغربي كما كان عليه في الأشهر الماضية. إنّ حرب الإبادة في غزّة سترتدّ على المصالح السياسية لدول الغرب على مدى سنوات طويلة. 

هذا لا يعني أنّ الجماهير العربية ستخرج وتقلب الأنظمة كما جرى في الأربعينيّات والخمسينيّات. 

هذا مستبعد في الوقت الحاضر. لكن قدرة دول الغرب على الحفاظ على خطابها المزدان بمصطلحات القانون والمعايير الدولية تبخّرت.

 تمتلئ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيّام بمقارنة بين كلام الناطق باسم وزارة الخارجية عن القصف الروسي على أوكرانيا وكلامه عن القصف الإسرائيلي على غزّة. هنا تبطل المقارنة. 

في حالة روسيا، إنّ دول الغرب تجزم بالقطع أنّ روسيا مسؤولة عن كلّ نقطة دم بريئة في أوكرانيا. لكن في حالة حرب الإبادة على غزّة، فإنها تتذرّع بشتّى الذرائع وتختبئ وراء عبارات وجمل عن صعوبة الرؤية في ضباب الحرب. 

في حالة فلسطين، هي ليست متأكّدة إذا كان الطيران الإسرائيلي هو الذي قصف هذا المستشفى أو تلك المدرسة لأنّ هناك احتمالاً بأن يكون سلاح الجوّ التابع لحركة «حماس» هو الذي دمّر هذا المستشفى أو تلك المدرسة. 

في كلّ حالات القصف والتدمير الذي لحق بالمجتمع الفلسطيني، فإنّ حكومات دول الغرب تتصنّع الدهشة والحيرة وتطلب المزيد من الوقت كي تتحقّق من حقيقة ما جرى وأنها تدرس الأمر مع الجيش الإسرائيلي وقد تصل إلى الحقيقة، والحقيقة لا تصل لا غداً ولا بعد غد.

خامساً، استطاع الغرب أن يبني مواطئ قدم له وقواعده في دول العالم النامي مقابل مساعدات وقروض وهبات مالية للكثير من الدول. 

وفي الحرب الباردة، رصدت الحكومة الأميركية الملايين من أجل أن تعتنق حكومات العالم النامي عقيدة معاداة الشيوعية، وكان لنا في لبنان نصيب ليس بالقليل من تلك الأموال (قصر السعديّات؟) 

إنّ مشروع «الحزام والطريق» الصيني اليوم باتَ ينافس مستوى المساعدات الأميركية للدول. والصين ليست بصلافة المانح الأميركي وتكبّره وعجرفته. 

من الواضح أنّ الحكومة الأميركية تضيق ذرعاً بنشر المساعدات الصينية حول العالم وهي تنشر الدعاية المضادّة لها في وسائل إعلام عالمية بما فيها لبنان. لم ينسَ مسؤولون أميركيون خلال زياراتهم إلى لبنان أن يحذّروا من خطورة المساعدات الصينية.

 حتّى أعمال الخير الصينية باتت مشبوهة وشريرة بالمنظور الأميركي لأنّ أميركا تريد أن تحتكر مكاسب المساعدات المالية للدول النامية.

سادساً، تخصّصت الحكومة الأميركية في نشر دعاية العنف ليس في كلّ الدول النامية وإنما في تلك التي تستضيف أو ترعى حركات مقاومة ومناهضة إمّا لحلف الإبادة الغربي أو لدولة إسرائيل.

 كلّ منظمات اللاعنف في العالم العربي تحظى برعاية مباشرة وغير مباشرة وتمويل سخي من قِبل منظمات ودول غربية. 

الغرب أراد أن يزعم أنه هو يمثّل الوداعة والسلم فيما يمثّل أعداؤه العنف والبطش. لكن سقوط الحرب الباردة أوضح للعالم أجمع أنّ الغرب كان عنوان العنف والحروب والإرهاب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. 

وحرب الإبادة في غزة فتحت فصلاً جديداً في تاريخ الإرهاب الغربي لأنّ العالم شاهده بأمّ العين وبمشاهد حيّة على الهواء. 

حربُ إبادة تجري ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم، والغرب كان مشاركاً بالكامل في كلّ مراحل هذه الحرب وغطّى لإسرائيل جرائمها، كما أنه سخّر وسائل قمعه لكمّ أفواه المعارضين وتطبيق إجراءات قمع وزجر لحساب الدعاية الإسرائيلية.

سابعاً، إنّ صعود حركات اليمين الفاشي في كلّ دول الغرب فرضَ معادلة جديدة في طريقة التخاطب الغربي مع دول العالم. 

إذ إنّ كلّ فرضيّات برنامج الغرب الليبرالي ستتبدّد وسيقوم اليمين الحاكم بمخاطبة دول العالم النامي بطريقة مختلفة لا تخشى من المجاهرة بالعنصرية و بالإسلاموفوبيا، هذا سيؤدّي إلى إعادة تركيب العلاقة بين أميركا وبين كل دول العالم. 

لن نرى أميركا أو الغرب بالصورة نفسها بعد اليوم. كلّ هذا سيكون من مضاعفات وعواقب «طوفان الأقصى» الذي هزَّ الشرق الأوسط وهزَّ العالم بأسره.

* أسعد أبو خليل  - كاتب عربي