قمة واشنطن للناتو ورقعة الشطرنج الكبرى

  
يعد إنعقاد قمة حلف شمال الأطلسي في العاصمة الأمريكية واشنطن تحولا كبيرا في تفكير الإدارة الأمريكية لتوسيع رقعة تحالفاتها خاصة في آسيا والمحيط الهادي لتحريك أدواتها كأحجار الشطرنج تبعا لمصالحها , واللافت في هذه القمة حضور عدد من القادة من خارج الناتو من أوكرانيا إلى عدد من الدول الآسيوية في محاولة من واشنطن وفق ما "تدعي" التركيز على الخطر الذي تواجهه ليس الولايات المتحدة والدول الأعضاء في الناتو وإنما العالم بأسره وهو الخطر الذي تشكله الصين وتحالفها مع روسيا , وهو ما أرادت واشنطن أن تفرضه في القمة لتحريك أدواتها على رقعة الشطرنج الكبرى كما تريد ووفق إدعاءات كاذبة لأن قوتها وهيمنتها في العالم بأسره لم يعد كما كان في السابق , والإحادية القطبية باتت من الماضي ,بينما الصين التي كانت الحاضر الغائب في هذه القمة ركزت واشنطن عليها كثيرا لأن هذا البلد يشكل خطرا كبيرا على ريادتها العالمية التكنولوجية والإقتصادية , أما بشأن دعوة اليابان وكوريا الجنوبية للمشاركة في القمة فهو تأكيد من واشنطن كخطوة لإحتواء الصين ولتعزيز تعاونها مع جميع الحلفاء في آسيا والمحيط الهادي, وهو ما ازعج بكين التي أصدرت تحذيرا صارما، وقالت إن توسع "الناتو" وخرق حلف شمال الأطلسي لحدودها، يعدان المصدر الحقيقي للمخاطر التي تهدد السلام والاستقرار العالميين , وطالبت الناتو بالتخلي عن عقلية الحرب الباردة، والمواجهة بين الكتل، ونهج المحصلة الصفرية، وتشكيل تصور صحيح عن الصين، والتوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية الصينية وتشويه الصين، والكف عن عرقلة العلاقات الصينية - الأوروبية.
ومن أجل إلزام الدول الأعضاء في الناتو بسياستها العدائية تجاه الصين شددت واشنطن على ان الأزمة الأوكرانية ليست أوربية بل هي ازمة عالمية وتحديا للنظام القائم على القواعد كما تتدعي , وهذا هو السبب في الضغط على أعضاء الناتو لمراجعة علاقتهم بالصين، لتقليص إمدادها بالتكنولوجيا المتطورة، والمشاركة في الجهد الأميركي لحفظ الأمن في منطقة جنوب وشرق أسيا، وبالتالي ليس أمام الأوربيين إلا الإلتزام بما تطلبه منهم واشنطن رغم أن الخطورة التي تهددهم حاليا هي الحرب الأوكرانية والتي تعد خط المواجهة غير المباشرة لهم مع روسيا , فكيف لأوربا أن تغير بوصلتها الأمنية وتلتزم بأوامر واشنطن للعب دور أمني في المحيطين الهندي والهادي بينما أمنها مهدد بسبب الحرب الأوكرانية , وهذا هو الخلل الذي تعاني منه أوربا بعد أن حولت واشنطن اهتمامها الأكبر لمواجهة الصين والزام الناتو بذلك مع تحالفات منها سابقا كانت مع بريطانيا وأستراليا وهو تحالف عسكري سياسي AUKUS الذي يجري من خلاله توسيع الأسطول النووي, وتقوم حالياً بتطوير حوار أمني رباعي مع كانبيرا وطوكيو ونيودلهي, وبالتالي فإن هاتين المجموعتين تسعيان رسميًا إلى تحقيق الهدف نفسه وهو ضمان الأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ, وفي حقيقة الأمر فإنها تعني المواجهة المشتركة للتوسع الصيني، وهو ما تركز عليه واشنطن باستمرار...
وأمام هذه التحالفات فإن العلاقات بين "الناتو" والصين تزداد توترا فيما يقابلها علاقات متينة بين الصين وروسيا التي تواجه بقوة ما يقوم به الناتو من دعم عسكري وسياسي لأوكرانيا وهو ما يزيد من التوتر العالمي واحتمال العودة إلى زمن الحرب الباردة، خصوصا وأن بيان قمة الناتو أشار إلى المخاوف من ترسانة بكين النووية وقدراتها في الفضاء، إلى جانب اتهامات لها بأنها تساعد روسيا في حربها في أوكرانيا ما دفع الصين إلى اعتبار البيان بأنه استفزازي ومليء "بالأكاذيب".
 وإذا كانت الصين الغائب الحاضر في قمة واشنطن للناتو فإن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي هو الحاضر في هذه القمة التي أقرت مساعدات ضخمة لمواجهة روسيا ومنها مقاتلات وبطاريات مضادة للطائرات مع تمويل لا يقل عن أربعين مليارا يورو في صورة مساعدات عسكرية خلال العام المقبل،  مع تعهد أعضاء الحلف أيضا بمواصلة دعم أوكرانيا نحو التكامل الأوروبي الأطلسي الكامل، بما في ذلك العضوية في حلف الناتو, وردا على هذه القرارات أكد الكرملين أن الناتو أصبح "منخرطا بشكل كامل" في الصراع في أوكرانيا، مضيفا أنه يدرس "تدابير" لاحتواء هذا "التهديد الخطر.
وإذا كانت المخاطر والتهديدات المنتشرة في جميع أنحاء العالم صناعة أمريكية تريد الآن توريط الناتو فيها وهو ما تخشاه أوربا لأنهم في الواجهة , بعد ان بات التحالف قويا فيما بين الصين وروسيا إضافة إلى قوى أخرى مثل كوريا الشمالية وإيران مع تكتلات كمنظمة شنغهاي التي عقدت قمتها قبل قمة الناتو , وهو ما يؤرق واشنطن خاصة من زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية مؤخرا , وهذا هو المستغرب, ووفق جون كيربي، منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي فإن هذه الزيارة "تشكل أكبر تهديد للأمن القومي الأميركي"، لأن العلاقة بين موسكو وبيونغ يانغ " تقوّض أمن أوروبا وآسيا والولايات المتحدة", بينما الرئيس بايدن زار 21 دولة خلال ولايته إضافة قيامهم عبر تحالفاتهم لتطويق الصين , فكيف يشعرون بالقلق من هذه الزيارة؟ وهذا ما يؤكد التناقض في السياسة الأمريكية , وفي حقيقة الأمر فإن زيارة بوتين لبيونغ يانغ تأتي إطار تعزيز العلاقات الثنائية وردا على الزحف الأميركي على البلدان الآسيوية لحصار الجانب الآسيوي من روسيا كدولة أوراسية ..
وإذا كان التركيز الأمريكي على الصين فإن السياسة التي تتبعها بشأن الحرب الأوكرانية خطير جدا , فهل يحارب الأوكرانيون من أجل أوكرانيا أم من أجل أميركا؟ بالتأكيد ليس من أجل أوكرانيا لأنها تخوض حربا بالوكالة عن الولايات المتحدة , وامام هذه التحديات فإن روسيا تعي جيدا ما تقوم به واشنطن , وهو ما عبر عنه نائب رئيس المجلس القومي الروسي ديمتري مدفيديف بالقول : يجب علينا أن نفعل كل شيء حتى ينتهي "مسار أوكرانيا الذي لا رجعة فيه" إلى حلف شمال الأطلسي إما باختفاء أوكرانيا أو اختفاء الحلف. أو حتى الأفضل اختفاء كليهما...
لم يكن مستغربا ما اتخذه الناتو من قرارات خلال قمته في وشنطن لأنه يعي جيدا القوة التي وصلت إليها التحالفات المواجهة له ,ولكن الغريب هو الإقدام على توسيع رقعة الشطرنج في العالم ومنها في الشرق الأوسط لإنشاء مكتب ارتباط في الأردن للناتو, ووفق بيان للحلف فإن هذا المكتب يأتي كجزء من خطة عمل الناتو لتعزيز المشاركة والتعاون مع الشركاء في المنطقة، ومكافحة التهديدات العابرة للحدود بما في ذلك "الإرهاب والتطرف" والأسئلة التي تدور في مخيلة الكثيرين عن أي إرهاب وأي مخاطر تتحدثون ؟ اليست هذه المخاطر والتنظيمات الإرهابية هي من صناعتكم؟
من الواضح بأن واشنطن أرادت من هذه القمة توحيد الجهود لمواجهة الصين... فهل تستطيع  عبر قرارات هذه القمة تحقيق الإختراق المطلوب؟ بالتأكيد لن تستطيع لأن الصين وتحالفاتها ليس مع روسيا وحسب وإنما مع الكثير من الدول في جميع القارات قوية جدا, وقرارات الناتو لن يكون لها أي تأثير على الصين التي باتت تهدد العرش الإقتصادي للولايات المتحدة ..

* أ. نضال بركات -  إعلامي وكاتب سوري