المرونة الإستراتيجية: أميركا وكيف تحارب
ابتداءً، يعطي تعريف المفهوم، الذي نؤسس عليه تحليل المشهد، وضوحاً ووحدة لغة، ونعرّف المرونة الإستراتيجية بأنها: سياسة توفر إمكانية المحافظة على السير نحو الهدف مع الرقابة على المتغيرات الطارئة وتعديل التكتيكات والأدوات لتفادي المخاطر وتجاوز العقبات. وقد ينطوي ذلك على إدارة التوازن الدقيق بين إجراءات متعارضة أو متناقضة، وتعديل مثاقيل وأولوية كل من هذه الإجراءات تبعاً للمتغيرات والتفاعلات المتأتية من تطبيق هذه الإستراتيجية. بناءً على التحول في الموقع العالمي للولايات المتحدة ونزولها عن مقعد الأحادية بالتزامن مع تقدم القوى الصاعدة والتراجع الاقتصادي المستمر، التزمت الإدارة الأميركية منذ بداية الحرب الجارية بثلاثة ضوابط إستراتيجية: (1) تحقيق انتصار للكيان المؤقت، (2) تفادي الانجرار للحرب الشاملة، (3) نجاح مرشح الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية.
يظهر ذلك جلياً في النص المنفرد الذي نشره جو بايدن في صحيفة «واشنطن بوست» في تاريخ 20 تشرين الثاني 2023، أي بعد حوالى شهر ونصف شهر على بدء الحرب، وقد شكّل هذا النص المرتكزات الرئيسية للرؤية الأميركية في هذه الحرب، من موقع صاحب القرار الفعلي الذي يحدد ما الذي يجب على إسرائيل أن تفعله، ليقول بصريح العبارة: «إن من واجب إسرائيل ومن حقها أيضاً أن تدافع عن نفسها»، وهي لازمة تكررت على لسان بايدن وأوستن وبلينكن وسوليفان في الأشهر الأولى للحرب، وهي تدل بشكل واضح على أن الحرب هي في الحقيقة مع الولايات المتحدة الأميركية ممثلةً بوكيلها الصهيوني، على أنها تشارك عسكرياً بشكل يومي في الساحة اليمنية تبعاً للحاجات والضرورات. وفي عبارة أخرى، قال بوضوح إن أميركا هي التي تدير المواجهة: «من واجبنا أن نتولى القيادة»، دون أن يعني ذلك غياب النقاش العملي والسياسي بين الطرفين.
تجدر الإشارة إلى أن المقال جاء بعد أكثر من شهر على اندلاع الحرب، وهو يعبّر من ناحية عن نضج عملية اتخاذ القرار بالمقارنة مع اللحظات الأولى في السابع من أكتوبر حيث اندفعت الولايات المتحدة نحو التدخل العسكري وسط مخاوف من هجوم إقليمي منسق ضد الكيان المؤقت، ثم التدخل الرادع في محاولة لكبح تدخل جبهات الإسناد دون نتيجة. العودة إلى هذا المقال، الذي نُشر منذ عشرة أشهر تقريباً، ومقارنة المسارات الجارية بالمقولات الرئيسية الواردة فيه، سيساعدنا على فهم التموضع الحقيقي للولايات المتحدة في الحرب والتفاوض والمسرح الإقليمي على حد سواء، وربما لو أننا قرأناه حين صدوره دون معاينة الخطوات الأميركية التي واكبت الحرب منذ بدايتها، لساورنا الشك حول مدى تعبير ذلك النص عن حقيقة البرنامج الأميركي. من زاوية أخرى، فإن حجم الحركة الديبلوماسية والإعلامية والعسكرية الأميركية المتزايدة تجاه المنطقة، أوقع الكثير من المراقبين في التباسات، ولكن سنحاول هنا، بقراءة هادئة وبالاستناد إلى النص والوقائع التي لا يختلف حولها أحد، تشريح عملية التضليل الإستراتيجي التي تقوم بها الولايات المتحدة، لتحقيق هذه الضوابط أو الغايات الثلاث، كيما تتسنى لنا إعادة تشكيل المشهد لتتضح أهمية المرونة الإستراتيجية كمرتكز رئيسي في السياسة الخارجية الأميركية، بما لها من أثر عميق على قدرة قوى التحرر على خوض المواجهة معها، إذ إنها، عبر هذه المرونة، تحتفظ بالقدرة على التدخل والضغط والمناورة الديبلوماسية، دون أن تتعرض للمخاطر، في حين تبقي الطرف الآخر -محور المقاومة- في حالة من التشويش الناتج من الغموض الأميركي المتعمد.
انتصار الكيان المؤقت
يقوم هذا النصر على أساس التخلص من «حماس» وتدمير بيئتها الحاضنة مادياً ومعنوياً وإعادة تشكيلها لاحقاً وفقاً لمشروع التطبيع، ذلك أن «حماس» هي التي استطاعت المبادرة للهجوم على الأراضي المحتلة لأول مرة منذ عام 1948 ونجحت في ذلك، وبذا تكون هي نافذة المناورة الإستراتيجية لمشروع المقاومة في المنطقة، كونها تمتلك الحافز والمشروعية والتأييد الشعبي الكافي للقيام بتلك المبادرة، ومجريات عام الحرب الأول الذي شارف على الاكتمال، تؤكد أنها هي البؤرة الرئيسية للمقاومة في المنطقة، كما أسهم هذا العام في إعطائها مشروعية شعبية عالمية غير مسبوقة في تاريخ الصراع، بفعل اختراق الإعلام التقليدي وحجم الإجرام الصهيوني المطلوب أميركياً والمنفذ بالقنابل الأميركية.
قال جو بايدن في مقالته: «لا ينبغي أن يكون هدفنا ببساطة وقف الحرب اليوم، بل يجب أن يكون إنهاء الحرب إلى الأبد، وكسر دائرة العنف المتواصل، وبناء وضع أقوى في غزة وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط حتى لا يستمر التاريخ في تكرار نفسه». انتصار الكيان المؤقت في هذه الحرب يعني منع محور المقاومة من قضم الإطار الأمني الوجودي للكيان، وبالتالي منع قيام كتلة صلبة ومتوثبة وجريئة في مواجهة الكتلة الغربية في منطقة غرب آسيا، وهذا هدف أميركي مركزي يتعلق بالقيمة التاريخية لهذه المنطقة، والتي تتعلق بالنفط والممرات والموارد، وإن كانت قد تراجعت إلى درجة التوازي في الأهمية بالمقارنة مع شرق أوروبا وشرق آسيا، مع الالتفات إلى أن الولايات المتحدة تتدخل هنا عسكرياً بشكل مباشر، ولا تفعل ذلك هناك، لأسباب تتعلق بالحاجة العملياتية للكيان في هذه المواجهة المعقدة.
أما بخصوص الحل السياسي، فيقول جو بايدن في مقالته: «إن الشعب الفلسطيني يستحق دولته الخاصة ومستقبلاً من دون تأثير حماس»، وهذا ما يشير إلى أن الجدال بين الإدارة الأميركية الديموقراطية والحكومة الصهيونية حول الحل السياسي في قطاع غزة بعد الحرب، هو جدال يتعلق بالمواقف الإعلامية والمشروعية إلى الآن، لكن لم يبلغ أوان نضجه بعد، ذلك أن أي مشروع سياسي في غزة، يفترض أن ينشأ ويتشكل بعد القضاء على المقاومة في قطاع غزة وليس قبل ذلك، وهذا محل توافق الطرفين، وهو يعبر عن ذلك بشكل واضح في مقالته: «بدايةً، يجب ألا تُستخدم غزة مرة أخرى كمنصة للإرهاب. ويجب ألا يكون هناك تهجير قسري للفلسطينيين من غزة، ولا إعادة احتلال، ولا حصار، ولا تقليص في الأراضي». وبشكل لا لبس فيه يحدد الأسباب الداعية إلى القضاء على «حماس»: «ما دامت حماس متمسكة بأيديولوجية التدمير، فإن وقف إطلاق النار لن يصنع السلام. وبالنسبة إلى أعضاء حماس فإن كل وقف لإطلاق النار يمثل لهم فرصة لإعادة بناء مخزونهم من الصواريخ، وإعادة تمركز المقاتلين، وبدء عمليات القتل عبر مهاجمة الأبرياء مرة أخرى. إن النتيجة التي تسمح لحماس بالسيطرة على غزة من شأنها أن تؤدي مرة أخرى إلى إدامة كراهيتها وحرمان المدنيين الفلسطينيين من الفرصة لبناء شيء أفضل لأنفسهم».
على الصعيد الميداني، يتطابق كلام بايدن، في منشوره الذي بدأ يتضح أنه يمثل الخطة الإستراتيجية الأميركية للحرب، مع الإجراءات التي يقوم بها جيش الاحتلال في غزة وتحديداً تهجير سكان شمال غزة إلى جنوبها: «لقد دعوت أيضاً إلى هدنة مؤقتة لأسباب إنسانية في الصراع للسماح للمدنيين بمغادرة مناطق القتال النشط وللمساعدة في ضمان وصول المساعدات إلى المحتاجين. واتخذت إسرائيل خطوة إضافية تتمثل في إنشاء ممرين إنسانيين وتنفيذ وقف يومي للقتال لمدة أربع ساعات في شمال غزة للسماح للمدنيين الفلسطينيين بالفرار إلى مناطق أكثر أماناً في الجنوب». يحيلنا هذا التعبير إلى أن التنسيق الذي جرى في الكابينت شمل الخطط التفصيلية للحرب، وليس فقط الخطوط العامة والكلية لها.
بنظر بايدن، فإن حسم الإشكالية الفلسطينية المستعصية، انطلاقاً من غزة ووصولاً إلى الضفة، يتقاطع كذلك مع مواجهة تمدد الصين، التي تنظر إلى منطقة غرب آسيا كفرصة اقتصادية إستراتيجية في ظل منظور الممرات التجارية الذي تعمل عليه، هنا نصبح أمام مصلحة أميركية خالصة، تدمج بين التطبيع ومواجهة التمدد الصيني، وقد كان هذ المشروع محل تباحث بين بايدن ونتنياهو كما يخبرنا في مقالته: «قبل أسابيع فقط من السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، التقيت في نيويورك برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وكان الموضوع الرئيسي الذي تناولناه في حديثنا يتركز حول جملة من الالتزامات الجوهرية التي من شأنها أن تساعد إسرائيل والأراضي الفلسطينية على الاندماج بشكل أفضل في الشرق الأوسط الكبير. وهذه هي أيضاً الفكرة وراء الممر الاقتصادي الإبداعي الذي سيربط الهند بأوروبا عبر الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل». تتحول «حماس» هنا إلى أحد معوقات تحقيق إنجاز في مواجهة تمدد الصين في غرب آسيا، ويقول بوضوح: «إن هدفنا في الشرق الأوسط هو العمل من أجل تحقيق هذا المستقبل، الذي لا يتسامح مع العنف والعداء الذي تمارسه حماس. وفي اعتقادي أن حماس هي التي حرضت على الأزمة الحالية في محاولة لتقويض الأمل في مثل هذا المستقبل»، ولذلك ينبغي القضاء عليها بشكل حاسم: «سوف تضاعف الولايات المتحدة جهودها لإقامة شرق أوسط أكثر سلماً وتكاملاً وازدهاراً، منطقة لا يمكن أن يتكرر فيها يوم مثل السابع من أكتوبر»، أي منطقة لا يمتلك فيها محور المقاومة إمكانية المبادرة مستقبلاً للقيام بأي عمل هجومي ضد الكيان المؤقت.
تفادي الإنجرار إلى الحرب الشاملة
تفكيك نافذة المناورة الإستراتيجية لمحور المقاومة هو هدف أميركي، يصب في الضابطة الثانية، وهي عدم التورط في حرب إقليمية، فتبقى غزة الساحة التي يريد الأميركي أن تنحصر الحرب فيها، وعندما تتفكك هذه النافذة ستنحسر قدرة محور المقاومة على المبادرة مستقبلاً، وبالتالي تتقلص احتمالات اضطرار الولايات المتحدة إلى التدخل العسكري الشامل في المنطقة. يلمح بايدن إلى هذه المقاربة بشكل واضح في المقال: «من واجبنا أن نتولى القيادة، لأننا إذا ابتعدنا عن تحديات اليوم، فإن خطر الصراع قد ينتشر، وسوف ترتفع تكاليف التصدي له»، ويقارن بشكل واضح بين حالتي شرق أوروبا وغرب آسيا، ويحدد الإستراتيجية الموحدة للتعامل مع الساحتين، «عندما يستمر العدوان في أوروبا دون رد، فإن الأزمة لن تنتهي من تلقاء نفسها. بل ستسبب في جر أميركا مباشرة. ولهذا السبب فإن التزامنا تجاه أوكرانيا اليوم هو استثمار في أمننا. فهو يمنع نشوب صراع أوسع نطاقاً مستقبلاً... من جانب آخر، رأينا أيضاً عبر التاريخ كيف يمكن للصراعات في الشرق الأوسط أن تطلق العنان لعواقبها في جميع أنحاء العالم». فبالنسبة إلى بايدن يشكل انتصار المقاومة في المنطقة تأثيراً عالمياً، ولا يقتصر على غرب آسيا، وهنا تدخل العوامل الثقافية والجغرافيا الاقتصادية لغرب آسيا في الحسبان.
مضافاً إلى ذلك، يجري بشكل تدريجي قضم وابتلاع الضفة الغربية وتطوير درجات السيطرة عليها عبر مشروع سموتريتش الذي يشكل هناك شبه دولة ضمن الكيان المؤقت، بكل المستويات الأمنية والقانونية والمالية والإدارية، إذ يتزامن تفكيك التهديد في غزة مع إنهاء العمق المركزي للهوية الفلسطينية في القدس، ولو دون الاضطرار إلى هدم المسجد الأقصى. بهذا المسار، ستكون جبهات الإسناد المؤثرة والفاعلة، قد بقيت خارج التأثير على مسار تفكيك القضية الفلسطينية في الداخل، وبالتالي لم تنتقل إلى درجة تشكيل حاجز حقيقي أمام مشروع التطبيع والسلام السعودي المفترض.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن تراكم إنجازات جبهات الإسناد يمكن التعامل معه لاحقاً، بعد تهشيم مشروعية تلك الجبهات وإثبات عدم جدوائيتها في مواجهة مشروع تفكيك القضية الفلسطينية، وحينها سيكون هناك مروحة من الخيارات الصلبة والناعمة الكافية للرد على مسار الإسناد واحتواء وإضعاف تأثيرات الوثبة الإستراتيجية المدروسة التي قام بها محور المقاومة.
طالما أن ما يجري في غزة والضفة لا يؤدي إلى الحرب الإقليمية، فإن الولايات المتحدة تستنكره وتفرض عقوبات على المتطرفين، لكنها تحافظ على دعمها المستمر والمتواصل للمشروع.
ويصرح جو بايدن بكل وضوح في مقالته، وإن كان بشكل وجيز وبعبارة واحدة، إلى أن اجتثاث حالة المقاومة لا يقتصر على غزة فقط، بل على الضفة أيضاً: «يجب على المجتمع الدولي تخصيص الموارد لدعم سكان غزة في أعقاب هذه الأزمة مباشرة، بما في ذلك التدابير الأمنية المؤقتة، وإنشاء آلية لإعادة الإعمار لتلبية احتياجات غزة على المدى الطويل بشكل مستدام. ومن الضروري ألا تنطلق أي تهديدات إرهابية مرة أخرى من غزة أو الضفة الغربية»، هنا يتحدث عن ضرورة مترابطة ومتزامنة، إعادة إعمار غزة يفترض أن يتصل بعملية استئصال المقاومة في الضفة.
نجاح المرشح الديموقراطي
أثّرت الانتخابات القريبة من زمن الحرب على اللغة الديبلوماسية الأميركية، وعلى بعض الإجراءات الميدانية في قطاع غزة لناحية إدخال المساعدات وبعض الترتيبات الجزئية في بعض الفترات الضاغطة، ولكنها لم تؤثر على الموقف الديبلوماسي والإعلامي الأميركي، كما أنها لم تؤثر بشكل فعلي على تدفق السلاح إلى جيش الاحتلال. وبعد انسحاب جو بايدن من السباق الانتخابي، ارتخت عوامل الضغط الأميركي، وجاء نتنياهو من الكونغرس لينفذ عمليتي اغتيال فائقتي الخطورة في الضاحية الجنوبية وطهران، بشكل شبه متزامن، ليندفع الأميركي بعدها بوضوح لتأمين الغطاء الديبلوماسي والعسكري وحماية الكيان من التعرض لرد فعل مؤثر، دون أن ننسى أنه أسهم ديبلوماسياً وعملياتياً في عملية الاغتيال في الضاحية، والآن يخوض في عملية تفاوض تتزامن مع نشر القطع البحرية، للحفاظ على الحصانة الأمنية للكيان المؤقت، ومنعاً لحصول انتكاسة دفاعية تضطر الولايات المتحدة إلى إجراءات عملياتية في إطار ترميم تلك الانتكاسة، وبالتالي احتمال الانجرار إلى مواجهة محدودة مرشحة للتوسع، تحمل درجات مخاطر ليس هناك ضرورة لها بنظر الأميركيين.
إجراءات المرونة الإستراتيجية
وزعت الولايات المتحدة، بأجهزتها الديبلوماسية والمدنية والعسكرية، إجراءاتها المتصلة بتحقيق المرونة والمحافظة عليها، على اتجاهين: الأول يتضمن الإجراءات الهادفة إلى منع انفجار الحرب الشاملة، والثاني يحوي الإجراءات الرامية لمنع توقف الحرب قبل تحقيق الهدف.
وتشمل الإجراءات المجالات التالية: (1) إجراءات ومواقف متعلقة بالأزمة الإنسانية في قطاع غزة، (2) التعزيزات العسكرية في المنطقة، (3) الإجراءات لضبط التصعيد، (4) مساعدة العدو في تنفيذ الاغتيال في الضاحية، (5) التنصل من المشاركة في استهداف الحديدة والضربة الاستباقية في لبنان، (6) الدعم التسليحي والاستخباراتي والقيادي، (7) التدخل العسكري العملياتي المباشر، (المجالان الأخيران عمل ممتد وروتين مستمر يصب مباشرة في تحقيق هدف استمرار الحرب حتى تحقيق الهدف).
عملياً، بالمقايسة بين الجهود الرامية لمنع انفجار الحرب الشاملة، والتي تظهر لكثيرين على أنها مساعٍ فعلية لوقف الحرب، وبين الجهود الرامية إلى دعم الكيان للاستمرار في الحرب حتى تحقيق الهدف، فإن كمية الإجراءات الداعمة لاستمرار الحرب وتكلفتها ومخاطرها مضاعفة بمرات كثيرة عن تلك الإجراءات الرامية إلى خفض التصعيد، أو ما يطلق عليه السعي إلى وقف الحرب.
مسارات التضليل
يشعر البعض بأن ثمة تقاطعاً محتملاً على مستوى الهدف الكلي للحرب، بين محور المقاومة والولايات المتحدة الأميركية، فكلاهما يدعوان إلى وقف الحرب، ولكنّ كلاً منهما يسير في طريق مناقض للآخر، وهنا بالتحديد، وعلى هذا الأساس من التقاطع، تحصل عملية خداع، ثمة نقاش في مدى نجاحها أو فشلها، ولكنها تحصل.
عملية التضليل الإستراتيجي التي واكبناها خلال الحرب منذ بدايتها، تتمثل أولاً في تظهير موقف الولايات المتحدة بأشكال مختلفة وملتبسة، على أنها مضطرة إلى إنهاء الحرب خوفاً من الانتقال إلى حرب شاملة، لكن المعالجة الفعلية بنظر بايدن لاحتمالات التصعيد هي التدخل الأميركي المباشر والهادف للردع، يقول: «سنواصل العمل لمنع هذا الصراع من الانتشار والتصعيد. لقد أمرت مجموعتين من حاملات الطائرات الأميركية بالذهاب إلى المنطقة لتعزيز الردع». ويتزامن هذا الإجراء الصلب، وفقاً للسياسة الأميركية التقليدية التي تقوم على أساس العصا والجزرة، بإجراءات ديبلوماسية تفاوضية، تدفع الطرف الآخر إلى تفضيل التراجع على التوثّب.
الاتجاه الثاني للتضليل، يتمثّل في إظهار أن الولايات المتحدة تخسر نفوذها وتأثيرها في المنطقة نتيجة سماحها للاحتلال بارتكاب مجازر هائلة ومتواصلة تحت عين الإعلام الآني الذي يبثّ صوراً مهولة من الإجرام الصهيوني، غير أنها في الحقيقة، وبعد عشرة أشهر من التجربة، لم تلاحظ أن تحرّك الشعوب والدول يؤثّر فعلاً على مسار مشروعها في غزة والضفة، والذي يفترض أن ينتهي بالتطبيع و«السلام» وبالتالي تسترجع الصورة الأخلاقية التي خسرتها، بالإضافة إلى قيامها بتحييد نفسها عن تلك الجرائم بطرق مختلفة، مع استمرار تسليح الاحتلال بالقنابل اللازمة لاستكمال تدمير غزة وقتل أهلها.
الاتجاه الثالث في التضليل، يتمثّل في خوف الإدارة الديموقراطية من تأثير الحرب على نتائج الانتخابات، مع خروج جو بايدن من السباق الانتخابي، تراجعت الحاجة للقيام بإجراءات «إنسانية» من قبيل إدخال المساعدات إلى قطاع غزة، ولذلك نرى الجوع ينتشر والأوبئة والأمراض، فيما أن المرشحة الديموقراطية كمالا هاريس تجد نفسها قادرة على استخدام مقولات خطابية أخلاقية تجاه غزة، دون أن تتحمل شخصياً المسؤولية عما جرى هناك، كونها لم تحضر للكابينت الصهيوني ولم تأخذ موقعاً مباشراً خلال الحرب، والآن في حال وصلت إلى السلطة فسيكون لديها الوقت الكافي لتعطي نتنياهو الهامش الكافي لاستكمال المشروع في غزة والضفة، وبعد ذلك يأتي التطبيع المفترض ليعالج الآثار والتبعات.
تظهر هذه التجربة أن أخطر عامل في السياسة الأميركية الخارجية هو المرونة، فهي تستطيع أن تسير على حافة الهاوية، وتضبط خيوط اللعبة، إذ تستطيع الحفاظ على التوازن بين الضوابط الثلاثة، وفي حال حصول انزياح في أحد المسارات بشكل يؤثر على الضوابط، فإنها تمتلك القدرة على التحرك بشكل يعيد التوازن، ويبقى المشروع جارياً حتى تحقيق الأهداف. فهي تحافظ على استمرار الحرب حتى الوصول إلى تحقيق الانتصار الصهيوني، وفي حال تعرضه لأي مخاطر تتدخل لحمايته، وفي حال اقترب الصراع من الانفجار فإنها تتدخل عبر القوة الرادعة والديبلوماسية الخادعة حتى تكبح التصعيد، وبحسب الحاجة تقوم بإجراءات إعلامية أو ميدانية لتخفيف الضغوط على المرشح الديموقراطي.
تقييم النتائج
تأخذ شبكات الإسناد بالتدريج مساحتها الخاصة وتتطور إنجازاتها وأهدافها، بموازاة مسار الحرب الأميركية على غزة والضفة، وكلما استمرت الحرب، تطورت تلك الجبهات وأصبح القضم التدريجي للوجود الصهيوني الغاصب والمؤقت أكثر عمقاً وأثراً. في حين أن غزة تتحول إلى قدرة هائلة بعد أن أثبتت للاحتلال أن توظيف القدرة الكلية في مواجهتها لعشرة أشهر جاء من دون نتائج، ليجد الكيان نفسه في لحظة فراغ؛ فلا هو استطاع أن يحقق الهدف في غزة، ولا هو استطاع أن يضبط نمو جبهات الإسناد، التي عملت بالتراكم التدريجي وبالنقاط، للتحول إلى أزمات أمنية مستفحلة، سيكون على الولايات المتحدة والكيان المؤقت البحث في طرق مكلفة ومرتفعة المخاطر للتعامل معها مستقبلاً. هذا إذا نجح نتنياهو في إقناع شركائه وخصومه في الداخل بالاستمرار في الحرب، أمّا وقف الحرب دون معالجة الأزمات الناتجة من جبهات الإسناد، فيعني الفشل الذريع في كل الساحات، ولذلك يركز نتيناهو على غزة، باعتبارها مفتاح الحل دون الذهاب إلى مواجهة مع محور المقاومة، ستؤدي إلى تدمير الكيان المؤقت حتى على فرض انتصاره فيها، ويسمح لسموتريتش بالاستمرار في برنامجه في الضفة، حيث قد تتولد جبهة أخطر بكثير من تلك التي بدأت في غزة في السابع من أكتوبر.
* هادي قبيسي ، مدير مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير