عشية الانتخابات الأميركية... cnn تُخرج فزّاعة بوتين

 قد ينعدم عامل المفاجأة في اعتبار قناة CNN ناطقةً باسم «الحزب الديموقراطي» الأميركي، بقدر ما ينعدم في اعتبارها منبعاً وفيراً للأخبار الكاذبة والمضلّلة. 

ورغم أنّ القناة ليست وحيدة في مجهودها، في بلد تملك فيه خمس شركات كبرى تسعين في المئة من وسائل الإعلام، إلا أنّها رأس الحربة في نشر البروباغندا على نطاق واسع، وغالباً ما يكون صحافيّوها مطلقي أكاذيب ضخمة تصل حدّ العالمية بتبريرها حروب الإمبراطورية (وأدواتها) وويلاتها. 

آخر «إبداعاتها» استحالتها ناطقة باسم «البيت الأبيض» في عزمه استهداف قناة RT الروسية، التي دائماً ما عرفت إصابة الدولة العميقة الأميركية في خاصرتها الرخوة، وعانت بالتالي من محاولات إسكات لا تنتهي، آخرها قبل أسبوع.
 
منذ إطلاق القناة الروسية قبل ما يقرب من عقدَين، وهي تشكّل صداعاً لحكومات الغرب على رأسها الأميركية. بعكس الإستراتيجية التقليدية التي تتّبعها القنوات المملوكة للحكومات وتروّج فيها لنفسها، اتّخذت RT (روسيا اليوم) اتّجاهاً معاكساً أمّن لها النجاح والانتشار. 

هكذا، بدلاً من الترويج للحكومة الروسية وبثّ البروباغندا «الإيجابية» عن بلدها، نصّبت القناة الناطقة بالإنكليزية نفسها واحةً مفتوحةً لمعارضي الغرب بشكل عامّ والإمبراطورية بشكل خاصّ، وأخذت على عاتقها تفنيد السردية الغربية ومواجهتها، وضمّت صحافيّين أميركيّين وأوروبيّين معارضين لسياسات بلدانهم الاستعمارية، وليس فقط روساً كما تفعل القنوات الأخرى، كلّ بحسب جنسيّتها. 

كذلك، راحت القناة تستضيف كلّ مَن يعتّم عليه الإعلام الغربي، وغالبية هؤلاء من قادة الجنوب العالمي ومختلف حركات المقاومة والأحزاب اليسارية، وحتّى ممثّلين عن المهمّشين داخل مجتمعات الغرب. 

على سبيل المثال، كانت من أكثر مَن رفعوا الصوت ضدّ سَجن مؤسّس «ويكيليكس» جوليان أسانج، إضافة إلى ملاحقة المبرمج الأميركي إدوارد سنودن، وإسكات الصحافي الألماني الراحل أودو أولفكوت، وكسرت التعتيم عن غيرهم ممّن فضحوا أيضاً الإمبراطورية وجرائمها ونفاقها، كلّ على طريقته. 

لكنّ القناة وقعت أيضاً في أخطاء، غالبيّتها تعود إلى إيمانها بأخذ الرأي والرأي المقابل، فراحت مرّات كثيرة تعطي الضحيّة والجلّاد مساحة متساوية، وحتّى عشيّة إطلاق العملية الروسية في أوكرانيا عندما يُتوقّع منها أخذ طرف دولتها، فإنّها وقفت على «الحياد».

 لكنّها عادت وصحّحت أخطاءها، والأمر ينطبق على حرب الإبادة الإسرائيلية الحالية بحيث باتت القناة لا تتورّع عن وصفها بالإبادة. 

وتعتمد القناة أسلوباً ساخراً يظهر في برمجتها وعناوينها وأخبارها وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما ساعد أيضاً في نجاحها.

وبالنظر إلى الإستراتيجية الآنفة، يُفهم تلقائيّاً عدم سكوت الغرب عن منصّة إعلامية تهزّ عروشه المثبّتة على جماجم الشعوب المهمّشة، ومحاولته إسكاتها منذ إطلاقها. 

فقد واجهت RT صعوبات في الولايات المتّحدة لسنوات تحت حجج مختلفة يمكن اختصارها باتّهام «التضليل»، تُوّجت بإغلاق «RT أميركا» مكاتبها قبل عامَين إبّان الحرب الروسية ــ الأوكرانية. 

كذلك، أُجبرت «RT ألمانيا» على الإغلاق بعدما حظّرتها السلطات الألمانية بسبب تحوّلها إلى الصوت الإعلامي الوحيد أثناء موجات احتجاج مختلفة شهدتها البلاد، وهو السبب نفسه الذي واجهت بسببه «RT فرنسا» الصعوبات، فيما أُزيل بثّ مختلف قنوات RT عن تردّدات الأقمار الصناعية الأوروبية، إلى جانب حظر صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي في دوَل «الاتّحاد الأوروبي».

 ووضعت «ميتا» وX (تويتر سابقاً) شارات على صفحاتها ومنشوراتها تشير إلى أنّ القناة «تتحكّم بها الدولة الروسية بشكل كامل أو جزئيّ»، ووصلت في فترة حدّ منع «ميتا» المستخدمين من إرسال المنشورات إلى أحد، ومنعها من الظهور (shadow ban). 

كذلك، حظّر يوتيوب المملوك لغوغل مراراً محتوى القناة، فيما أزالت غوغل وآبل تطبيقَيها لنظامَي تشغيل «آندرويد» و«iOS»، عدا عن عدد لا يُحصى من الهجمات الإرهابية التي كانت مخطّطة على مكاتب القناة وأُحبطت، ومحاولات اغتيال رئيسة تحريرها مارغريتا سيمونيان مرّات عدّة وتهديدها وعائلتها بالقتل.

كلّ ما سبق غيض من فيض ممّا تتعرّض له وسيلة إعلامية بسبب فضحها جرائم ونفاق الغرب، وهي محميّة من دولة عظمى، فما بالك بوسائل أخرى حرّة لا تحظى بظهر حماية أساساً؟! 

ورغم كلّ محاولات الحظر هذه، فإنّ RT لا تزال مستمرّة في البثّ وتؤرّق هواة الحروب الإمبريالية، بل إنّ هذه المحاولات تفضح نفاق أصحابها وأكاذيبهم حول «حرّية التعبير» و«حرّية الصحافة» وغيرهما من التعابير الرنّانة.

 كما تفضح قولهم عن RT بأنّها «بوق للأخبار المضلّلة»، فإن كانت كذلك، لماذا هذا الخوف منها إذاً؟ لو كانت القناة تنشر الأكاذيب فعلاً، ألا يمكن للمشاهد تدارك ذلك؟

 إلّا إذا كان حكّام الغرب يستغبون شعوبهم ويظنّون بسهولة استمالتهم، والحال كذلك، وهو ما يفسّر التضليل الذي يأتي من كلّ حدب وصوب في الإعلام الغربي.

 هكذا، فإنّ استغلال CNN، ومن ورائها الإدارة الأميركية «الديموقراطية»، شمّاعة RT لا يعدو كونه فرصة لتمرير الرسائل السياسية لخصمها «الجمهوري»، واستخدام حجّة يسهل هضمها لدى فئات واسعة تأثّرت بالحملة الكونية على RT منذ سنوات.

هكذا، أوردت CNN الأسبوع الماضي أنّ «إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تخطّط لاتّهام روسيا بالتدخّل في الانتخابات الرئاسية هذا العام» وأنّ الإدارة ستعلن عن إجراءات ضدّ من يُفترض أنّهم مسؤولون، مضيفةً أنّ قناة RT ستكون الهدف الرئيسي لهذا القرار. 

ونقلت CNN عن «مصادر حكومية» أنّ البيت الأبيض اتهم روسيا أمس بـ«جهود متواصلة للتأثير على الانتخابات الأميركية لعام 2024» باستخدام «وسائل إعلام يديرها الكرملين» الروسي لنشر ما يسمّى «معلومات مضلّلة». 

وادّعت أنّه إلى جانب الإدانة العلنية من البيت الأبيض، ستعلن وزارة العدل الأميركية عن «إجراءات إنفاذ القانون التي تستهدف الحملة الروسية السرّية». 

سرعان ما أعاد هذا الاتّهام إلى الأذهان التهم المشابهة في السابق، إذ إنّه بات «روتيناً» لدى كلّ استحقاق انتخابي أميركي. 

فقد سبق أن اتّهم الديمقراطيّون روسيا بالتدخّل في الانتخابات الرئاسية خلال حملتَي 2016 و2020، وادّعت «وكالات الاستخبارات المركزية» مراراً أنّ «موسكو كانت تنشر قراصنة وتستخدم حرب المعلومات» لترجيح كفّة التصويت لمصلحة المرشّح الجمهوري دونالد ترامب. 

هذه الادّعاءات شكّلت أساساً لتحقيق أجراه المستشار الخاصّ روبرت مولر على مدى عامَين، قبل أن يتبيّن في تقريره النهائي الشهير ألّا أساس لكلّ ذلك من الصحّة. 

وفي عام 2020، نشر أكثر من 50 مسؤولاً استخباريّاً سابقاً رسالة زعموا فيها أنّ الملفّات الموجودة على حاسوب هانتر بايدن، نجل الرئيس الأميركي جو بايدن، التي فضحت تورّط العائلة بفساد خارج البلاد، كانت ملفّقة من روسيا، قبل أن تعود صحيفة «ذا نيويورك تايمز» بعد سنة وتؤكّد بأنّ محتويات الحاسوب كانت حقيقية، رغم أنّها كانت نفسها شاركت في حملة التضليل التي قامت قبل أسابيع من رئاسيّات 2020 دفاعاً عن الرئيس بايدن ونجله في الملفّ الذي أوصلته صحيفة «نيويورك بوست» إلى الواجهة. 

وفي عام 2017، أجبرت وزارة العدل الأميركية قناة «RT أميركا» على التسجيل كـ«عميل أجنبي» بعد ادّعاء مجموعة من وكالات الاستخبارات الأميركية أنّ القناة «ساعدت في انتخاب ترامب عبر نشر تغطية سلبية عن (المرشّحة هيلاري) كلينتون»، قبل أن تتوقّف القناة عن العمل كلّياً في عام 2022 بعد قطع الموزّعين بثّها عن الأراضي الأميركية على خلفية الحرب في أوكرانيا.
 
وردّاً على ما نشرته CNN، علّقت RT بسخريتها المعهودة: «عزيزتنا CNN، لدينا ردّ بالتأكيد. في الواقع، لدينا أكثر من ردّ، لكننا لم نتمكّن من اختيار واحد (حتّى إنّنا فكّرنا بإجراء استطلاع رأي في المكتب)، لذا إليك بعضاً من ردودنا: 1- ها! 2- هاهاهاها! 3- ههههههههه. 4- عام 2016 على الهاتف يطالب باستعادة كليشيهاته. 5- ثلاثة أمور ثابتة في الحياة: الموت، والضرائب، وتدخّل RT بالانتخابات الأميركية. 6- علينا كسب الراتب من الكرملين بطريقة أو بأخرى. 7- في مكان ما، وزيرة الخارجية كلينتون حزينة لأنّ ما حصل ليس بسببها».

 ببرودة الأعصاب هذه، سخرت RT من CNN والإدارة الأميركية، ورفضت الانجرار في لعبة الوقوف في موقع المدافع عن نفسه، مفضّلةً اعتماد تقنيّات السخرية التي تبرع بها، وخصوصاً عندما يكون لبّ الموضوع سخيفاً لا يُمكن تصديقه، وهو ما قدرت القناة على ملاحظته تلقائيّاً وإبرازه إلى الناس.

يُذكر أنّه قبل شهر ونيّف، زعم مكتب مديرة الاستخبارات الوطنية (ODNI) في واشنطن أنّ «الكرملين بذل جهوداً حكومية كاملة لتأليب الرأي العام الأميركي على بايدن وزملائه الديموقراطيّين»، ما عبّد طريق «مكتب التحقيقات الفيدرالي» لمداهمة منزل ضابط الاستخبارات السابق في المشاة البحرية الأميركية ومفتّش الأسلحة السابق لدى الأمم المتّحدة سكوت ريتر، وهو معارض للسياسة الأميركية سبق أن وصف الرئيس بايدن بأنّه «مجرم حرب»، ومنزل المحلّل السياسي ديميتري سيمس، وهو أميركي سوفياتي المولد يُعدّ من معارضي بايدن كذلك. 

وقد وصف ريتر الذي سبق أن تعرّض للحظر على X بسبب موقفه من الحرب في أوكرانيا (الأخبار 8/11/2022) المداهمةَ بأنّها «محاولة لترهيب أيّ معارض للسياسات (الأميركية) الرسمية، ولا سيّما الدولة العميقة».

هو إذاً فصل جديد من المواجهة بين وسيلة إعلامية ومنظومة متكاملة من الحكومات واللوبيات ووسائل الإعلام. 

ولئن قد يجادل بعضهم بأنّ كلّ ذلك ليس سوى «صراع عروش» بين الدول، وقد يكون على حقّ، إلّا أنّ الأمر يصل إلى أعمق من ذلك. 

فنحن على شفير عالم متعدّد الأقطاب، يحتدم فيه صراع المعلومات، فيما ينبذ «حرّية الرأي» مَن اعتُبروا روّادها ذات يوم، مع ما يحمله ذلك من تهديد على حرّية الصحافة. 

لذا فإنّ الأولوية هي للنجاة بأيّ حبل خلاص، تمهيداً لإعلام قوي معارض للاستعمار، يديره أحرار العالم.
 
«ميتا» تنسّق مع «إسرائيل»

في إطار سياستها بخصوص الصهيونية التي تتكشّف خيوطها تباعاً مع استمرار الإبادة الإسرائيلية، كشف تقرير نشرته MintPress أخيراً عن تعاون شركة «ميتا» المالكة لفايسبوك وإنستغرام وواتسآب وثريدز مع جهات إسرائيلية للتدقيق في مضمون المنشورات وحذف تلك الناقدة للصهيونية أو المؤيّدة للفلسطينيّين. 

وأكّد التقرير أنّ «ميتا» تصنّف معاداة الصهيونية كخطاب كراهية، وتساويها فعليّاً بمعاداة السامية، مستنداً إلى وثائق مسرّبة ومقابلات مع موظّفين في الشركة أشاروا إلى حذف منشورات تنتقد الصهيونية حتّى عندما لا تعبّر عن كراهية لليهود.

ونقلت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» أنّ «ما يقرب من 150 مجموعة وخبيراً قدّموا معلومات أدّت إلى تحديث سياسة ميتا».

 أبرز المجموعات كانت منظّمة CyberWell التي تتّخذ من تلّ أبيب مقراً لها، وقد وصفتها الصحيفة بأنّها «منظّمة غير ربحية تعمل على توثيق تضخّم معاداة السامية على الإنترنت وإنكار الهولوكوست منذ هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر والحرب التي أعقبت ذلك في غزة».

 ويشير تقرير MintPress إلى أنّ المنظّمة الإسرائيلية «كانت تعمل بشكل وثيق مع «ميتا» للإبلاغ عن المحتوى الذي تعدّه معادياً للسامية» رغم علاقاتها العميقة مع الحكومة الإسرائيلية، إضافة إلى عمل الرئيس التنفيذي للمنظّمة واثنين من أعضاء مجلس إدارتها معاً في شركة الاستخبارات الخاصّة «أصوات إسرائيل» سابقاً. 

كما أنّ أحد مديري الشركة هو مستشار للمنظّمة، فيما انتقل رئيس «أصوات إسرائيل» التنفيذي ليتولّى منصب المدير المالي في شركة CyberWell. وينقل التقرير عن مصدر له أنّ «هذه المجموعات متماسكة بإحكام بحيث يمكنك الوصول إلى النتيجة ذاتها بعشر طرق مختلفة».

ويضيف التقرير أنّ المنظّمة «تعاونت مع منظّمة أخرى هي Act.IL سيّئة السمعة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمنظمة IAC و«وزارة الشؤون الإستراتيجية» الإسرائيلية. وهذه الأخيرة تقود جهود الكيان الصهيوني المناهضة للمقاطعة على مستوى العالم. 

فقد أشار تقرير CyberWell السنوي لعام 2022 إلى أنّ المنظّمة غير الربحية عملت كمزوّد بيانات لمجتمع Act.IL من أجل دعوته في نهاية العام للعمل على حالة معاداة السامية على الإنترنت». 

تدخّل المنظّمة «يمتدّ إلى ما هو أبعد من مجرّد الإبلاغ عن المحتوى» بحسب MintPress، «فقد لعبت دوراً أساسيّاً في تشكيل نهج «ميتا» في إدارة المناقشات حول إسرائيل وفلسطين. 

وقد أدّى هذا التأثير إلى مخاوف بشأن قمع الخطاب السياسي المشروع وانتقاد السياسات الإسرائيلية». 

هكذا إذاً، تمنع «ميتا» فضح إبادة جماعية قائمة، وتقف في صفّ كيان متوحّش، ودائماً تحت حجّة «معاداة السامية» الواهية والساقطة، التي لم تعد تنطلي على طيف واسع من الجمهور في الغرب، وفي مقدّمته يهود يرفضون ارتكاب الإبادة باسمهم ويعلنون تضامنهم مع الفلسطينيّين وقضيّتهم على أعلى المنابر.

نزار نمر...