عام على الطوفان العظيم... غزّة تروي إبادتها

 «سيأتي موظف الإحصاء/ يكشف عن الشوارع والبيوت/ وبقلمٍ جاف/ يسجّل خسائرنا ويرحل: دون أن يرى قلبي.سيأتي موظف الإحصاء/ يكشف عن الشوارع والبيوت/ ويتركني أعدّ خسائري على كفّين بلا أصابع» (الشاعر الشاب حيدر غزالي)

بعد عامٍ كاملٍ من الإبادة المتعمّدة للفلسطينيّين في غزة، فشل العدو الصهيوني في كل محاولاته لكتم صوتها عن العالم. 

اغتال «جيش» الاحتلال مئات الصحافيين والمراسلين، وقصف مكاتب المؤسّسات الإعلامية، واستهدف الأساتذة والأكاديميّين، لأجل أن يمنعهم من نقل المشهد وفضح فظاعة غطرسته.
 
لكنّ الغزيّين يبقون عصيّين على الصمت. في أقسى الظروف اللاإنسانية، يسعى كثيرون ممّن يمتلكون هاتفاً متنقّلاً في القطاع إلى توثيق الجرائم الحربية التي يرتكبها الاحتلال بحق البشر والشجر والحجر. 

أصبح كلّ منهم مراسلاً ومصوّراً لا يمتلك ترف الوقت في نشره لما يكون عليه شاهداً، قبل أن يصبح هو الشهيد. 

بالإضافة إلى آلاف مقاطع الفيديو ومنشورات مواقع التواصل الاجتماعي التي توثّق كل ذلك، يسعى من لديه الفرصة إلى كتابة المقالات والشهادات التي تدوّن أحداثاً متعدّدة من الحرب على غزة.

 يأتي كتاب «غزة تروي إبادتها: قصص وشهادات» الصادر حديثاً عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، ليُضاف إلى الكتب الفلسطينية والعربية ــ الورقية وتلك الرقمية غير المطبوعة ــ التي تبادر إلى الإضاءة على هذه الحرب ومحاولة توثيقها.

يحمل الكتاب بين طياته 33 قصّة بالمجمل تختلف في طولها وأسلوبها عن بعضها البعض، كتبها أشخاص متنوّعون من غزة خلال الحرب وقام بتحريرها الصحافيان الفلسطينيّان عبدالرحمن أبو شمّالة المولود في مخيم جباليا في غزة، وأكرم مسلّم الذي تولّى كتابة كلمة التحرير تحت عنوان «خسارات لا يسجّلها موظّف الإحصاء». 

ينقسم الكتاب إلى قسمين: «شهادات» الذي يضم «نصوصاً أدبية مرموقة تحكي التجارب الشخصية وتتأمّلها وتتعمّق فيها»، بينما القسم الثاني «قصص من الميدان» يشكّل «منصّة للناس العاديّين، يسردون خساراتهم كما بدت لهم من مواقعهم وعبر مناظيرهم وباستخدام لغتهم وتشابيههم القادمة من نسيج حياتهم المهتّك، وتجربة اشتباك أجسادهم مع آلة المحو...».

 ما يميّز هذه السرديات هي مباشرتها وقساوتها العفوية التي فرضت على صنّاع العمل هذا نشرها كما هي، بكل ما فيها من آلامٍ وخسارات وخوفٍ وقلق وتضحيات، حتى جاءت على شكل شهادات حرة ومادة خام تفرض على القارئ تقبّلها كما هي. 

هذه القصص «قادمة في معظمها من الجسد وليس من اللغة، في غياب تلك المسافة التي تسمح للكلمات أن تتنفس وتتمالك نفسها قبل أن تصل إلى متلقيها، ليس ثمة مسافة هنا، الكلمات تصل كما هي بندوبها كاملة وهيئاتها الأولى»، كما وصفتها مقدمة الكتاب للشاعر غسّان زقطان (1954).

أُنتج هذا الكتاب «في مدة قصيرة لا تتجاوز بضعة أشهر»، كما يشير مشرف العمل ومدير «مؤسّسة الدراسات الفلسطينية» في رام الله مجدي المالكي، إذ سعى فريق العمل الذي يضمّ منسّقين وباحثين ميدانيّين ومحرّرين، إلى تجميع النصوص والشهادات في صراع مع الوقت الذي كان يهدّد الكتّاب.

 وقد عبّر حيدر غزالي عن ذلك حين طُلب منه كتابة نصٍ جديد لم ينشره من قبل قائلاً: «لا أملك نصوصاً غير منشورة، أنا في صراع مع الوقت، ما لا أنشره، سيغيّبه الموت، إن كانت نهايتي كذلك. 

كلّما سمحت لي الفرصة بالنّشر، سأنشر». كما أتى الغلاف مزيّناً بلوحة للفنان أمجد غنّام بعنوان «خذ بقاياك» قدّمها تبرّعاً لهذا التوثيق، مثلما فعل الفنان ميسرة بارود وقدّم رسومات ثلاث جاءت موزّعة على صفحات متباعدة.
 
«العين التي زارتنا فجراً» للكاتبة دنيا الأمل إسماعيل، تتقدّم الشهادات الـ 18 لتضع القارئ وسط مشهدٍ عنيف من الحرب لا يمكن تخيّله حتى في أفلام هوليوود. في حين أنّ العنوان قد يبدو مجازياً فيفهمه كثيرون على أنّه كناية عن الحسد الذي أصاب أهل غزة وفتح عليها لعنة الإبادة، إلّا أنّه ــ للأسف الشديد ــ ليس كذلك البتة. 

لا حاجة هنا إلى ألاعيب اللغة وإمكاناتها، فالعين هي العين البشرية المجرّدة! عند سور المنزل الخارجي وبجانب شجرة الصبار، كانت هناك عين زرقاء تنزف دماً «من جانبيها المقلوعين من جسدٍ ورأسٍ كان يحلم بصباحٍ معجونٍ بالزيت والزعتر وخلطة سرية من عجائب الجدات». 

تتبعها هبة الآغا في «ماذا تفعل امرأة خائفة من الحرب؟» لتضيء على معاناة نساء غزة في ظل الظلم والقهر المفروضَين عليهن، فتقول: «لا تأكل النساء كثيراً في الحرب، يقف الجوع في حلوقهن مثل شوكة، يطبخن الدمع وأوراق الشجر، ويحملن دفاتر التطعيم وشهادات الميلاد، يخبزن ويغسلن ثياباً مقهورة وأكفاناً، 

وفي لحظة مباغتة تتفقّد امرأة عينيها وهما تخلوان من الكحل، وشفاها التي تشققت... وملابسها التي لا تتغيّر، ماذا تفعل امرأة حزينة في الحرب؟». 

أما يسري الغول، فيجد نفسه أمام أسئلة وجودية تحت المجاعة التي فرضها كيان الاحتلال على القطاع، «هل يموت أطفالي من الجوع أم أطفاله؟»، ويسأله طفله قبل تدمير مخيم الشاطئ: «حين تقصفنا الطائرات يا أبي، هل سنلتقي مجدداً بعد الموت؟».

يشترك الشاعر جواد العقاد في قصته «الشّعر يُطعم خبزاً ومناقيش أيضاً» مع «صباحان من حرب الإبادة» لـلمدوِّنة سما شتات، في تأمّل جدوى الأدب (الشعر والكتابة) أمام الحاجات الحيوية المادية. 

ففي حين تقرّر استبدال الكتابة التي تخفّف من حدة اختناقها بطشت الغسيل اليومي ذي «منفعة أكبر» بحسب النسوة النازحات حولها، يجد جواد مسوّدات شعرية له «تحترق في الفرن الطيني وتسهم في صنع الخبز». 

أمّا الناشطة المجتمعية نهال الصفطاوي التي كانت قد حصّلت تصريحاً قبل السابع من أكتوبر لتزور خالتها في رام الله، فتسرد بالتفصيل معاناتها وأسرها وتكبيلها لساعات خلال عودتها إلى قطاع غزة، فتقول: «هي المرة الأولى التي أفتّش فيها بمثل هذه الإهانة... اكتشفت أنني أعامل الآن كأسيرة لا مسافرة أو موظفة في مؤسسة إنسانية... اليوم أعامل أني غزاوية بحت بلا أي ألقاب أخرى، ولا امتيازات، ولا حتى لقب إنسانة». دفع اليأس بـهيا أبو نصر بعد محطات نزوحٍ مستمرة تحت القصف والجوع، إلى تجار الحروب والدم المهرّبين أصحاب التنسيقات غير القانونية مع المصريين على معبر رفح الذي وصل قيمة عبور الفرد الواحد ما يقرب من خمسة عشر ألف دولار أميركي.

يعرض الجزء الثاني من الكتاب «قصص من الميدان»، شهادات دُوّنت عبر مقابلات أجراها الباحثان أشرف أبو شرخ وفاطمة بشير. 

تتصدّر القصص في هذا القسم مقابلة ميدانية مع شاهدة من جريمة حرب مستشفى الشفاء التي ضمّت عشرات آلاف النازحين، إذ شاهدها العالم على شاشات التلفزة غير مصدّقين أن تصل وحشية الاحتلال إلى هذا الدرك من الشر. منى الغرباوي، مصمّمة غرافيك وأم لأربعة أولاد، بعد إنقاذهم من تحت أنقاض منزلهم المهدّم، نزحت إلى الشفاء لاعتقادها بأنّ «المستشفى مكان محمي بقوانين الحرب».

 في الاجتياح الأول للمكان، أخرج الاحتلال 30 ألف نازح، فبقيت مع الطاقم الطبي و20 ألف نازح وعانوا من فقدان المياه والطعام. 

حاصر الجيش المستشفى بعشرات الدبابات و احتلها، ثم اعتقل الناس من بينهم شبان أخرجوهم من غرف العمليات. 

من مبنى مجاور للشفاء، شهدت الغرباوي الاجتياح الثاني ثم القصف العنيف والعبور على أشلاء الشهداء.

 هذا القدر الهائل من الوحشية والعنف والغطرسة والجشع لا يقل مع بقية القصص. يسرد موسى قنديل، الناجي الوحيد من عائلته، كيف اعتقله جنود الاحتلال مع أخيه وشبان آخرون وتم تعذيبهم بوحشية جعلته يقارن تجربته في العقاب الجماعي على أنها أقسى مما يعرفه عن معتقل غوانتنامو: أمر الكلاب أن تهجم على الأسرى، وصب الماء الساخن على رؤوسهم، وتكسير أياديهم وأرجلهم ،منعهم من الأكل والتبوّل لأيام. 

وبعد إطلاق سراحه عاد إلى بيته ليجد أفراد عائلته تحت الردم، وبقي لأيام يحفر بيديه حتى يجد جثامينهم.

يروي مدرّب الخيول عبد الحميد شويخ ذو خبرة تتجاوز 15 عاماً، في مقابلته كيف جاء مصير الخيول مثل الخيّالة، فلم تسلم الأحصنة من همجية الاحتلال الذي دمّر بالكامل ثلاثة أندية للفروسية (نادي الجواد، نادي الأصدقاء، ونادي الفارس الفلسطيني). بعض الخيول ماتت من الجوع، والأخرى سرقها الجنود وظهرت في مقاطع فيديو على منصة التيك توك. 

اللافت أنّ شويخ يأخذ مساحة ليعبّر عن العلاقة بين الفارس وحصانه في توصيفه لحزن الفرسان بعد سرقة وقتل جيادهم: «الفرسان الآن بمرّوا بحالة نفسية سيئة جداً، منهم من فقد خيله، والخيل بالنسبة له صديق، ويعتبروا أخ أصلاً»، بينما تحاول القصص الأخيرة إعادة الأمل ولو قليلاً إلى هذا القطاع الذي ما زال تحت الإبادة لمدة ستتجاوز عاماً كاملاً بعد يومين. 

نقرأ تجربة المدرّس مصعب الذي وجد في تعليم النازحين في مركز الإيواء تعافيه الشخصي من خساراته في الحرب، وتجربة الصيدلاني أحمد حلّس الذي افتتح صيدليته في خيمة نزوح رغم كل ما مرّ به.

خلال عامٍ كاملٍ من العدوان وحرب الإبادة على قطاع غزة، دكّ «جيش» الاحتلال ما يزيد على 82 ألف طن من المتفجرات سماء وبيوت ومدارس ومستشفيات غزة، حتى قُدّرت بخمسة أضعاف القنبلة الذرية التي رمتها الولايات المتحدة الأميركية على هيروشيما وناغازاكي عام 1945 في ختام الحرب العالمية الثانية.

 يومها، حين زار الصحافي الأميركي جون هيرسي هيروشيما ليكتب تقارير من هناك؛ استيقظ الأميركييون على حقيقة أنهم ارتكبوا الجريمة الأكبر عالمياً.

 يأتي هذا الكتاب ليؤدي دوراً مشابهاً، لكن السؤال الأهم هل سيعي العالم، والجمهور الداعم لكيان الاحتلال مدى فداحة وبشاعة جريمته هذه؟

تهاني نصار