عام من إبادة غزة... الإدارة الأميركية شريكة سياسياً وعسكرياً
الرأي الثالث
في أكتوبر/تشرين الأول 2018، كان حكم طقش، القائم بأعمال ممثل بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة الأميركية واشنطن، يزيل لافتة المنظمة من المبنى رقم 1732 في شارع ويسكونسن أفينو بالعاصمة، بناء على قرار الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب بإغلاق المقرّ، والذي تزامن مع نقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس المحتلة.
كان مسؤولو منظمة التحرير يرفعون أصواتهم عالياً وهم يرددون: "منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي، في كفي قبضة زيتون وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي". لاحقاً، أعلن جو بايدن، ترشحه لانتخابات الرئاسة الأميركية 2020، وهاجم قرارات ترامب، متعهداً بالعمل لحلّ القضية الفلسطينية وصولاً إلى حلّ الدولتين، وهو ما تحقق عكسه، وأثبتته حرب غزة.
لم يفت إدارة بايدن أن تقدم إلى بعض الدول حوافز ووعودا بتسهيلات في صفقات أو برامج لم يكن من السهل الموافقة عليها في الماضي
وخلال مناظرة رئاسية بينه وبين ترامب في 2020، وجّه جو بايدن انتقاداته حادة لخطط ترامب، مشيراً إلى أن الفلسطينيين يستحقون حياة كريمة، ومكرراً الموقف الأميركي "التقليدي" بلزوم الوصول إلى حلّ الدولتين بما هو ضرورة للأمن القومي الأميركي.
في السادس من أكتوبر 2023، وبعد مرور نحو عامين و9 أشهر على تسلّمه السلطة، كان جو بايدن لا يزال يكرّر كل النغمات التي ظلّ يردّدها أسلافه، متجاهلاً معظم جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي. قبلها بأكثر من عام، قتل جيش الإسرائيلي الصحافية الفلسطينية – الأميركية شيرين أبو عاقلة، في مايو/أيار 2022، ولم تكن الولايات المتحدة جادّة بطلب التحقيق في مقتلها، الذي تمّ بجريمة أخرى ارتكبتها قوات الاحتلال، وهي اقتحامها مخيم جنين بالضفة الغربية.
حتى السادس من أكتوبر 2023، لم يكن بايدن قد غيّر وضع منظمة التحرير الفلسطينية (على قوائم الإرهاب الأميركية)، ولم يوقف جرائم القتل الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، ولم يعدل وضع السفارة، ولم يفتتح مقراً لقنصلية أميركية لخدمة الفلسطينيين في القدس المحتلة، كما تعهدت إدارته.
باختصار ظلّت كل القرارات التي اتخذها ترامب سارية، فضلاً عن حماسة إدارة بايدن باستكمال مشاريع التطبيع في المنطقة، دون التفات إلى القضية الفلسطينية وأصل الصراع.
عقب السابع من أكتوبر 2023، تبنى الرئيس جو بايدن كل الأكاذيب التي روّجها الاحتلال الإسرائيلي، بدءا من أن مقاتلي حركة حماس خلال اقتحامهم لمستوطنات غلاف غزة في ذلك اليوم، قاموا بقطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء وغيرها من الأكاذيب، بل وردّد الرئيس الأميركي أنه شاهد فيديوهات وصوراً حول ذلك، وكان من الطبيعي أن تنتشر الكذبة في كل بيت أميركي وفي كل مكان حول العالم، وإلا فمن يعرف أكثر من الرئيس؟
ولكن بعد أقل من ساعة، نفى البيت الأبيض أن يكون الرئيس قد شاهد أي فيديوهات أو صور. أعطى بايدن إسرائيل ورئيس حكومة دول الاحتلال بنيامين نتنياهو، الضوء الأخضر لقصف غزة منذ اللحظة الأولى، وأعلنت إدارته تقديم الدعم لإسرائيل عسكرياً ومالياً ودبلوماسياً، وأمر بنشر حاملة طائرات وقطع بحرية أخرى في المتوسط، وتسليم شحنات طارئة من الأسلحة لدولة الاحتلال، وأرسل على الفور وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى تل أبيب، وهو ما استتبع بجولات مكوكية لمبعوثي الإدارة ووزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى المنطقة طوال أشهر الحرب المتواصلة.
علماً أنه بعد أسبوع من بدء العدوان، زار بايدن الأراضي المحتلة للتضامن مع دولة الاحتلال، حيث اجتمع مع أعضاء حكومة الحرب.
وعود وضغوط لتجاهل الإبادة
لم يفت بايدن منذ اللحظات الأولى للحرب، أنه بحاجة إلى استخدام وسائل ضغط في المنطقة من أجل السماح لإسرائيل بارتكاب المجازر التي تقوم بها، وكانت زيارات بلينكن وعدد من المبعوثين الأميركيين المتتالية، تدعو علناً عدداً من الدول العربية إلى تجاهل ما تقوم به إسرائيل من قتل للأبرياء والمدنيين في غزة، ووعدت الولايات المتحدة في الجولات الأولى من المناقشات والمفاوضات، أنه سيتم التخلص من حركة حماس خلال بضعة أسابيع، وبعدها سيتم إيقاف الحرب.
ولم يفت إدارة بايدن أن تقدم إلى بعض الدول حوافز ووعودا بتسهيلات في صفقات أو برامج لم يكن من السهل الموافقة عليها في الماضي، في مقابل تجاهل سفك دماء الأبرياء الذين يتم قتلهم في كل لحظة على يد الاحتلال.
اختارت الولايات المتحدة هذه الطريقة في التفاوض منذ اللحظة الأولى، لأهداف عدة، أهمها السماح لإسرائيل بفعل ما يحلو لها انتقاماً لما حدث في 7 أكتوبر 2023 وأيضاً ضمان عدم اتخاذ الدول العربية موقفاً موحداً، وألا ترفع بعض الدول العربية التكلفة على الولايات المتحدة، التي كانت حصلت على وعود (كاذبة) من إسرائيل بإنهاء العدوان بأقصى سرعة.
مرّت الأسابيع، ثم الأشهر، ثم العام، من "الوعود" الأميركية، وبدأت إسرائيل اليوم في الاعتداء على دول عربية أخرى وارتكاب مجازر جديدة في لبنان، واغتيال شخصيات داخل إيران، وكذلك تنفيذ اعتداءات في اليمن وسورية، بما يهدد بالحرب الشاملة في الشرق الأوسط.
على مدار أشهر الحرب على غزة التي بلغت عامها الأول، عطّلت الولايات المتحدة اتخاذ قرار في مجلس الأمن لوقف العدوان الإسرائيلي، زاعمة أنها رغم أنها تدعم حلّ الدولتين والسلام الدائم بين الطرفين (علماً أنه طوال عقود الصراع، كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تنحاز بالكامل لإسرائيل في أي مفاوضات، أو من دونها، وتتبنى سرديتها وتحميها من المسائلة بشأن كل جرائمها).
وحتى عندما كانت إدارة بايدن خلال الحرب الحالية على قطاع غزة تؤكد أنها قدّمت مقترحات لوقف الحرب، وحتى إنها قالت إن إسرائيل وافقت على أحد المقترحات، تنصلت حكومة نتنياهو من مسودة الصفقات، ووضعت العراقيل أمام أي وقف لإطلاق النار، رغم إعلان حركة حماس موافقتها.
وكالعادة، انحازت الولايات المتحدة إلى الجانب الإسرائيلي وألقت اللوم على حماس في العرقلة.
انتهاك كل قانون دولي في غزة
للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، يتم انتهاك كل قانون دولي تقريباً متعلق بالحروب، في حرب غزة منذ أكتوبر 2023. في كل الحروب والأزمات العالمية التي اندلعت على مدار أكثر من الـ70 عاماَ الماضية، بما فيها الحروب التي أشعلتها الولايات المتحدة، كانت هناك محاسبات إما داخلية (داخل الولايات المتحدة تمّت محاكمة عدد من الجنود بسبب انتهاكات لحقوق الإنسان في العراق وأفغانستان)، أو دولية، حيث يتم فرض عقوبات دولية أو عقوبات من الولايات المتحدة على دول، إما ترى منظمات دولية أنها تنتهك حقوق الإنسان أو تعتبر الولايات المتحدة ذلك.
ولكن هذه المرة، سمحت الولايات المتحدة في حرب غزة بانتهاك كل قانون دولي تقريباً، بل قامت بتبرير وتمويل الإبادة الجماعية في غزة، والمحرقة التي طاولت الأطفال والنساء، واستهداف وقنص المدنيين في الممرات الآمنة واستهداف المستشفيات وتدميرها وقتل الأطباء واستهدافهم وحبسهم ومنع دخول المساعدات والغذاء والدواء إلى القطاع.
وأشارت المنظمات العالمية بما فيها الأمم المتحدة إلى كل هذه الانتهاكات، إلا أن الولايات المتحدة استمرت في تجاهل الجرائم التي ترتكبها إسرائيل فيما تصفها بأنها "حرب"، بل واصلت تمويلها ودعمها لإسرائيل، كما اعتمدت على لسان المتحدثين باسم الأمن القومي ووزارة الخارجية والبيت الأبيض، كل وسائل الدفاع والتبرير، لضمان عدم محاسبة إسرائيل على الجرائم المرتبكة.
ولدى كل سؤال، كانت الإدارة الأميركية تقول إنها تطالب إسرائيل بالتحقيق في أي جريمة ترتكب، سواء حالات اغتصاب النساء وقتل المدنيين والأطفال خصوصاً، واستهداف المدنيين، وحتى قتل أميركيين ــ فلسطينيين أو أميركيين يطالبون بالحقوق للفلسطينيين، وهو ما دفع صحافيين للتساؤل بسخرية: "هل تطالبون القتلة بالتحقيق مع أنفسهم في الجرائم التي يرتكبونها، وما فائدة المؤسسات الدولية؟".
العالم كلّه يشاهد
كانت لدى الولايات المتحدة فرصة حقيقية للوصول إلى حل للصراع العربي الإسرائيلي، لكنها لم تكن لتقبل بسهولة الهزيمة لحليفها الأبرز في العالم الذي ظلّت تدافع عن جرائمه المرتكبة لعشرات السنين. وبينما كانت كاميرات الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي، تظهر حجم الجرائم المرتكبة يومياً في غزة، كانت الولايات المتحدة تواصل دعمها الاحتلال في جرائمه التي وصلت إلى حد تجويع 2 مليون فلسطيني تحت مرأى العالم بأسره.
منذ بداية الحرب، اختارت واشنطن أن تقدم سرديتها حوال ما حدث في السابع من أكتوبر، على أنه مشابه لما حدث في 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة، وبالتالي فإنه يجب أن يكون ردّ الفعل مشابهاً لما فعله الجيش الاميركي آنذاك (غزو أفغانستان، ثم لاحقاً ارتكاب واحدة من أكبر جرائم الحروب، بزعمها أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، ثم الاعتذار لاحقا عن هذه الكذبة بعد تدميرها للعراق واحتلاله في 2003 وزرع الأزمات في المنطقة وصولاً إلى غزو تنظيم داعش للعراق وسورية).
ردّد مسؤولو إدارة بايدن هذه الكذبة، وتناقلها الإعلام، وتمّت شيطنة الفلسطينيين في الداخل والخارج، ودعمت الولايات المتحدة إسرائيل بالمليارات من الدولارات، تزامنا مع ضغط اللوبي الصهيوني في الداخل واستناداً أيضاً إلى الرؤية الاستعمارية لأميركا نفسها، بوصفها الدولة الأقوى عسكرياً واقتصادياً في العالم، والتي لا تقبل تحدي المظلومين لهيمنتها وسيطرتها غير العادلة على النظام العالمي.
ينطلق بايدن منذ أن كان شاباً من رؤية مؤيدة لوجود إسرائيل في الشرق الأوسط بهدف الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة وهو صاحب المقولة الشهيرة أنه ليس بالضرورة أن يكون المرء يهودياً لكي يكون صهيونياً. في ثمانينيات القرن الماضي، قال: "إسرائيل أفضل استثمار نستثمره من أجل مصالحنا في المنطقة، ولو لم تكن هناك إسرائيل، لاخترعناها".
ويتفق بايدن في هذه الرؤية مع المدرسة السياسية الأميركية التقليدية، والتي يعتمدها الديمقراطيون والجمهوريون.
أربك ما حدث في السابع من أكتوبر 2023، هذه الفكرة إلى درجة أن وزارة الخارجية كذّبت على الكونغرس في مايو الماضي، وتجاهلت تقييمات رسمية في واشنطن بشأن المساعدات الإنسانية، والتي خلصت إلى أن إسرائيل تعمدت منع تسليم الغذاء والدواء إلى غزة، والذي كان سيؤدي قانونياً إلى قطع شحنات الأسلحة إلى إسرائيل.
وعلّقت مديرة مكتب منظمة هيومن رايتس واتش في واشنطن، سارة ياغر، في تصريحات ، على سياسة الولايات المتحدة تجاه غزة بالقول إن "الصراع أدّى إلى إضعاف مصداقية الولايات المتحدة، سواء في ما يتعلق بالقانون الدولي أو داخلياً، خصوصاً بعد التقارير عن عدم التزامها بقوانينها الخاصة التي تحظر تصدير الأسلحة إلى أي دولة تنتهك القانون الدولي".
أكذوبة وقف إطلاق النار
على مدار 12 شهراً، تركت إدارة بايدن إسرائيل تنجو من كل جريمة حرب ارتكبتها، ورفضت قرارات المنظمات والمؤسسات الدولية، وهاجمت المحكمة الجنائية الدولية لموقفها بالمطالبة بإصدار قرار باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالنت، وواصلت دعم إسرائيل سياسيا وعسكريا بنحو 20 مليار دولار، وإرسال القنابل لها لقتل المدنيين.
ويظهر بايدن، في كل مرّة، أمام الإعلام، مبدياً أسفه لمقتل الأطفال والنساء، وفي الوقت ذاته، يواصل إرساب الأسلحة التي تستخدم لقتلهم، ما أدى إلى توحش نتنياهو الذي يلاقي دعماً كبيراً في أروقة الكونغرس ويرغب رغم كل دعم يايدن، في عودة ترامب إلى البيت الأبيض، خصوصاً مع ما يتردد من أن الرئيس الجمهوري السابق وعد إسرائيل بالسماح لها بضمّ الضفة الغربية بحال فوزه في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقرّرة في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
توسع نطاق الحرب
تسببت سياسات جو بايدن على مدار عام كامل، في مزيد من عمليات القتل الوحشية من قبل الجانب الإسرائيلي الذي يرغب في انتهاز الفرصة السانحة له، فقام باغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية في طهران، بشهر يوليو/تموز الماضي، في ما يعد اختراقاً لسيادة الدول، لتسارع أميركا إلى الإعلان بأنه لم يتم إبلاغها بنية تنفيذ عملية الاغتيال مسبقاً من قبل إسرائيل، متعهدة رغم ذلك بحماية دول الاحتلال ومحذرة إيران من الرد.
وأبلغت إدارة بايدن وسطاء أنه على إيران تجاهل الرد في مقابل الوصول لوقف إطلاق النار، وهو ما التزمت به إيران، لتتبخر وعود وقف الحرب في الهواء.
رغم ذلك، لم تنقطع شهية نتنياهو للقتل والترهيب، مع عدم وجود أي رادع له على المستوى العالمي، في ظل حماية أميركي غير مسبوقة لم تتوفر لأي كيان في العالم، وفي ظل تجاهل واشنطن لكل القوانين الدولية.
قام جيش الاحتلال بتفجيرات وعمليات اغتيال عدة في لبنان (منها تفجير أجهزة النداء لحزب الله – بيجر) ثم اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في 27 سبتمبر/أيلول الماضي، مع مواصلة القتل اليومي للمدنيين في لبنان، وهو ما رأت فيه إدارة بايدن كما يبدو فرصة سانحة لإضعاف الحزب.
ولهذا الغرض، قامت واشنطن بتقديم دعم جديد عسكري لإسرائيل، حيث تراجع الحديث عن وقف إطلاق، وحتى لو كانت التصريحات الرسمية تقول عكس ذلك، سواء في لبنان أو غزة، ما يجعل اليوم المنطقة بأكملها تقف على شفير حرب شاملة.
محمد البديوي