حروب أفريقيا المنسية "حرب الكولتان"

 يستغرب كثيرون اليوم من المواقف المتخاذلة للمنتظم الدولي إزاء ما يجري في غزة وكل فلسطين منذ الثامن من أكتوبر 2023 من إبادة جماعية وما يجري في لبنان.

ويستغربون أكثر من تصرفات دول غربية كانت تقدم نفسها كمدافعة عن حقوق الإنسان واحترام العهود والمواثيق الدولية ليتبيّن، من خلال دعمها الكيان الصهيوني بالمال والسلاح والمتطوعين والمعلومات الاستخبارية والإعلام الأفاك، أنها شريكة في حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.

إن الذين رفعوا شعارات الحرية والعدالة والأخوة وتبنوا فكرة العقد الاجتماعي والتنوير والعلمانية هم الذين خاضوا الحروب الميركانتيلية والاستعمارية، وأمعنوا في شعوب أفريقيا والأميركيتين وآسيا قتلاً واستعباداً ونهباً وتنصيراً.

هذا الغرب الاستعماري دارويني بطبعه، يؤمن بالبقاء للأقوى، و حينما يتحدث عن احترام حقوق الإنسان أو المواثيق والأعراف الدولية فهو يعني حقوق إنسانه الغربي، و يعني المواثيق الدولية التي تخدم مصالحه ويوظفها وقت ما شاء لخدمة تلك المصالح.

فإبادته للهنود الحمر انتقاء طبيعي، و استعباده و استغلاله لأفريقيا و تبذيره لثرواتها تصرف عادي من الأقوى اتجاه شعوب كانت تستحق الإبادة، حسب قانون الانتقاء الطبيعي. 

إننا حينما ندقق في أسباب الحروب بين الدول الأفريقية أو الحروب الأهلية فيها، سنجد بصمات الاستعمار واضحة فيها. فهي إما خلافات حدودية من مخلفات الاستعمار أو صراعات عرقية أو طائفية زرع بذورها هذا الاستعمار، وما زال يغذيها بغاية وضع يده على بئر نفط أو منجم معادن، أو لاستغلال أراض فلاحية وغابوية.

والأدهى أن بعض الدوائر الاستعمارية لا تجد حرجاً في استعمال الإنسان الأفريقي كفأر تجارب لصناعة اللقاحات أو تجريب الأدوية، وهذا الموضوع بالذات لا بد من العودة إليه نظراً إلى خطورته.

 حروب رواندا والكونغو 

في كانون الأول/ديسمبر 1993، وصلت قوة مكوّنة من 2300 رجل تابعة للأمم المتحدة إلى كيغالي؛ للسهر على تنفيذ اتفاقية السلام الموقّعة قبل أربعة أشهر بين نظام الرئيس الرواندي جوفينال هابياريمانا ومتمردي الجبهة الوطنية الرواندية، التي تتألف من اللاجئين التوتسي الذين فروا من البلاد بسبب المذابح المتكررة في حق طائفتهم منذ الاستقلال.

لكن، مع بدء المذابح الجماعية في حق التوتسي وعوض تعزيز بعثة الأمم المتحدة لوقفها، اختار مجلس الأمن تقليص القوات الأممية العاملة في الميدان، ولاذ المجتمع الدولي بالصمت المريب، بالرغم من إعدام ما يقرب من 10.000 شخص يومياً، بل إن الولايات المتحدة بذلت قصارى جهدها مع المنتظم الدولي للحيلولة دون اعتبار ما يجري في رواندا "إبادة جماعية". 

أما فرنسا فقد كانت متورطة في رواندا؛ إذ كانت تدعم حكومة هابياريمانا في جهودها الحربية ضد متمردي الجبهة الوطنية الرواندية من تشرين الأول/ أكتوبر 1990 إلى كانون الأول/ديسمبر 1993، و كان جيشها يقدم المشورة لهيئة الأركان العامة الرواندية ويوفر التدريب للفرق المتخصصة، بما في ذلك وحدات الحرس الرئاسي والدفاع المدني.. 

في 6 نيسان/أبريل 1994، تم إسقاط الطائرة الرئاسية التي قتل فيها كل من جوفينال هابياريمانا، رئيس رواندا ( من الهوتو)، وسيبريان نتارياميرا رئيس بوروندي. اتُهم متمردو الجبهة الوطنية الرواندية (توتسيون) بالوقوف وراء هذه الجريمة، وقامت القوات المسلحة الرواندية (FAR)، وقوات الدرك وميليشيا الهوتو إنتراهاموي بارتكاب إبادة جماعية بحق التوتسي وبعض الهوتو المعتدلين، إذ قتل ما يناهز 800.000 شخص خلال 100 يوم.

وقد منحت فرنسا الحكومة المؤقتة [التي دبّرت المجازر]، دعماً سياسياً حيوياً في الأمم المتحدة، ولم يعمل المسؤولون الفرنسيون على ممارسة أي ضغط لوقف الإبادة الجماعية في رواندا. 

وإلى اليوم، لا يزال دور فرنسا في الإبادة الجماعية للتوتسي مثيراً للجدل؛ إذ اكتنفه الكثير من الغموض لا يفسر إلا بتورطها في الإبادة الجماعية في رواندا ربيع 1994 على الأقل من ناحية دعم جيشها لنظام متعطش لسفك الدماء. 

يوم الأربعاء 15 حزيران/يونيو 1994، أي بعد عشرة أسابيع من بدء الإبادة الجماعية، عُقد مجلس دفاع مصغر في قصر الإليزيه، بحضور الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، زعيم الحزب الاشتراكي، لوضع استراتيجية فرنسية لمواجهة تصاعد وتيرة الحرب بين الجبهة الوطنية الرواندية FPR وقوات الهوتو الحكومية التي كانت تدعمها فرنسا لسنوات.

وفي 22 حزيران/يونيو 1994، صوّت مجلس الأمن على القرار الأممي 929 الذي تقدمت به فرنسا، ونصّ على تدخل قوات أممية من 2500 رجل، تحت قيادة فرنسية في رواندا للقيام بمهمة "إنسانية"، أطلق عليها اسم:" العملية الفيروزية" (Opération Turquoise).

وإلى أيامنا هذه، ما زال العديد من المهتمين يتساءلون عن الهدف من "العملية الفيروزية". هل كان التفويض الذي أصدرته الأمم المتحدة لفرنسا لوقف الإبادة الجماعية التي كانت قد نفّذت عملياً؟ أو لمنع النصر الوشيك للجبهة الوطنية الرواندية على نظام الإبادة الجماعية؟..

المسلم به أن كل المؤشرات كانت تدل على قرب انتصار حركة التمرد التي حاربتها فرنسا منذ عام 1990. صحيح أنه تم إنقاذ بين 10.000 و 17.000 توتسي في الأيام الأخيرة من الإبادة الجماعية، لكنّ آخرين تركوا لمصيرهم كما هي الحال في بيسيرو، إذ يقال إن قيادة الجيش الفرنسي ماطلت لمدة ثلاثة أيام قبل التدخل. 
 
أنشأت فرنسا منطقة إنسانية في جنوب غرب رواندا لكنها، في الواقع، كانت بمنزلة محطة عبور لآلاف الهوتو نحو كيفو في الكونغو، بمن فيهم العديد من مرتكبي الإبادة الجماعية الذين كانوا يخشون انتقام جنود الجبهة الوطنية الرواندية بعد دخولها كيغالي.

وقد فر مليون من الهوتو إلى زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية ) واستقر جزء كبير منهم في شرق الكونغو في منطقة كيفو عندما تمكنت الجبهة الوطنية الرواندية، بزعامة الرئيس بول كاغامي من استعادة السيطرة على العاصمة كيغالي.

بالتزامن مع أحداث رواندا، تأسس في الزايير(الكونغو لاحقاً) " تحالف القوى الديمقراطية لتحرير الكونغو" (AFDL)، الذي أطاح موبوتو سيسي سيكو، وتولى رئاسة جمهورية الكونغو الديمقراطية، لوران ديزيريه كابيلا، الذي اعتمد على دعم الحكومة الرواندية الجديدة، لكنه سرعان ما انقلب على حلفائه الروانديين والبورانديين ودخل في صراع دام معهم.

اختلطت الأمور في رواندا والكونغو، ودخلت المنطقة في فوضى شاملة؛ إذ أدّى وجود مليون ونصف من المهاجرين الروانديين التوتسي ومليون هوتي في مقاطعتي جنوب كيفو وشمال كيفو (شرق الكونغو ) والصراعات على السلطة في الكينشاسا، وتدخّل دول أجنبية إلى إشعال فتيل حروب بالعناوين العرقية في الكونغو، كانت تمتد أحياناً لتشمل رواندا.

وبالرغم من توقيع اتفاق سلام تلو اتفاق سلام، سرعان ما كان ينهار لتشتعل حرب شاركت فيها دول كرواندا والبوروندي وأوغاندا ودول أخرى، بالإضافة إلى أكثر من 200 من الجماعات المسلحة المتحاربة في كيفو الشمالية وكيفو الجنوبية، نذكر من بينها أربع حركات تعدّ الأكثر نشاطاً في المنطقة، وهي:

- "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا (FDLR) " كانت تنشط في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومتكوّنة من إثنية الهوتو التي تعارض نفوذ التوتسي في رواندا.

- قوات “المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب” (CNDP) والتي تأسست من قبل مقاتلين سابقين من “التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية” –غوما (RCD-G).

- "حركة إم23 (M23) التي تتكوّن بشكل رئيسي من إثنية التوتسي، وتقاتل الجيش الكونغولي من أجل السيطرة على “غوما”.

- "القوات الديمقراطية المتحالفة” (ADF) تابعة لتنظيم "داعش". وقد تأسست في عام 1996 في غرب أوغندا، وتوسعت لاحقاً إلى الكونغو الديمقراطية، في مقاطعة شمال كيفو بالقرب من الحدود مع أوغندا. 

"الكولتان" السبب الرئِيسي للحرب
 
أدت الحرب في هذه المنطقة من العالم إلى نزوح ما يقرب من 7 ملايين شخص، حسب تقرير كشفت عنه المنظمة الدولية للهجرة (IOM) نشر في تشرين الأول/أكتوبر 2023، وإلى إبادة ما يقرب من خمسة ملايين شخص. 

ادّعت كل دولة تدخلت في حرب الكونغو أصالة أو نيابة عن قوة استعمارية أنها تدافع عن أمنها واستقرارها ضد الجماعات المسلحة التي كانت تهددها.

من جهتها، ادّعت هذه الأخيرة دفاعها عن حقوق أقليتها إما في مواجهة مركزية الدولة أو في التصدي للعدوان الخارجي.

ولكن، كل هذه المبررات لم تكن سوى الجزء المرئي من الجبل الجليدي.

أما السبب الرئيسي فكان السيطرة على مناجم المعادن النفيسة كالذهب و الكولتان.

 يعدّ الكولتان معدناً استراتيجياً، وهو معدن أسود أو بني محمر مركب من معدنين: كولومبيت، والتانتاليت. يستخرج منه النيوبيوم (يسمى في الأصل الكولومبيوم) والتنتالوم.

يتم بيعه لشركات مثل " نوكيا "و "موتورولا" و "كومباك" و "ألكاتيل" و" ديل" و "هيويلت-باكار" و "إ.ب.م" و "إريكسون" و "سوني"..، حيث يتم استخدامه في المنتجات الإلكترونية كالمكثفات والمقاومات والرقائق في الهواتف المحمولة و أجهزة الكمبيوتر وأجهزة ألعاب الفيديو والأجهزة المنزلية.

ويعرف التنتالوم بمقاومته العالية للتآكل، ويستعمل أيضاً في سبائك alliages الكوبالت والنيكل، ويدخل بسبب مقاومته الحرارة والتآكل في صناعة المحركات النفاثة في الصواريخ والطائرات، وفي سبائك أدوات القطع أو الخراطة. 

ويوجد الكولتان بكميات تجارية في وسط أفريقيا، وخاصة في جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تمتلك ما بين 60 و 80٪ من احتياطيات العالم، خصوصاً في شمال منطقة كيفو. كما يوجد بكميات أقل في رواندا. وقد ارتفع سعره بنسبة 2000٪ في 50 عاماً. 

كانت مداخيل الكولتان توظف في شراء السلاح المستعمل في الحرب بين الجماعات المتمردة والقوات النظامية التي تسيطر على مناجم المنطقة للإبقاء على حالة الفوضى والتناحر في منطقة كيفو. وكانت شركات مختصة تقوم بنقل الكولتان إلى الخارج، مثل SDV Transintra، التي تنتمي إلى مجموعة Bolloré الفرنسية.

وحسب تقرير قدمه خبراء أمميون عام 2001 إلى مجلس الأمن، فإن الكولتان يستخرج بشكل غير قانوني من الأرض، ويتم تهريبه لصالح الشركات المتعددة الجنسيات من طرف جيوش أوغندا ورواندا و بوروندي من المقاطعة الشرقية للكونغو،  وهو ما نفته الدول الثلاث.

لكن تقريراً قدم عام 2015 إلى مجلس الأمن أكد هذا الأمر، وجاء فيه أن الكميات الكبيرة المستخرجة من هذا المعدن بشكل غير قانوني من أراضي جمهورية الكونغو الديمقراطية، يتم تهريبها بموافقة الميليشيات المحلية والقوات المسلحة لصالح الشركات التجارية الإقليمية والدولية. ويقدر الربح الذي جناه الجيش الرواندي من الاتجار غير المشروع في الكولتان بنحو 250 مليون دولار بين عامي 1998 و 2000 م.

من جهتها، اتهمت المنظمة غير الحكومية "غلوبال ويتنس" الشركات التي تحقق أرباحاً هائلة من بيع الهواتف المحمولة والأجهزة الإلكترونية الأخرى بأنها "لا تفعل شيئاً لضمان ألا تأتي مكونات منتجاتها من المناطق التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة". وتدّعي بعض هذه الشركات، في دفاعها، أن سلاسل التوريد الخاصة بها معقدة إلى درجة أنه من المستحيل تعقبها، وهو ما رد عليه العديد من المنظمات غير الحكومية وكذلك الأمم المتحدة بأن هذه الحجة غير صحيحة.

 نعم، تتحمّل الحكومات والجماعات المسلّحة بعض المسؤولية في ما جرى في شرق الكونغو، لكن يقع اللوم بالخصوص على الدول الاستعمارية التي استغلت الصراعات الطائفية بين الهوتو والتوتسي وأطماع أنظمة أفريقية فاسدة غارقة في التبعية لتأجيج الحرب؛ خدمة لمصالح الشركات المتعددة الجنسيات التي كانت في حاجة إلى كولتان كيفو.

المصطفى المعتصم - كاتب وباحث في القضايا الإقليمية والدولية.