اليمن ولعنة الحلفاء

 من يقرأ في الخطاب السياسي اليمني للحقبة المنصرمة لا يزال بإمكانه سماع صدى كلمات من قبيل؛ لا نريد أن نكون صومالا ثانيا، لا نريد الذهاب إلى الصوملة، لا نريد أن نصبح أفغانستان أخرى، 

ظل اللاوعي السياسي يرسم مستقبلا للبلاد ينتمي إلى الماضي لا إلى المستقبل، 

عودة من اللاوعي اكتنزت الماضي ونماذجه لا تعبر من خلالها إلى الحاضر مستلهمة وهاضمة التجربة لبناء المستقبل، 

وإنما ظلت تجتر الماضي لإعادة إنتاجه مرة أخرى في سياق الاستفراد بالسلطة والمكايدات السياسية وإعادة تدوير الأزمات بهدف الهيمنة والإبداع في تجديد آليات السيطرة  بمسار المستقبل. 

ولذلك لم نرَ عبارات من قبيل: نريد أن نكون دولة تنافس بلدان المنطقة في التنمية والاقتصاد، لم تصدق النوايا ولذا لم يصدق معها الواقع السياسي.

اليوم يمكننا أن نقرأ عناوين من قبيل، سفينة لتنقيب النفط ترسو في السواحل الصومالية، الصومال يوقع اتفاقية دفاعية مع تنزانيا، الصومال يأخذ مساعي أثيوبيا للحصول على ميناء في أرض الصومال على محمل الجد وينظر إليه كتهديد للدولة، ويهدد بدعم متمردي إثيوبيا، الصومال هضم المرحلة الماضية من تاريخه ويشق طريقه نحو التنمية. 

وفي المقابل تقرأ عن أفغانستان؛ تُكرس الحكومة جهودها لمعالجة وتأهيل مدمني المخدرات، وتحظر زراعة الخشخاش. الصين تعلن معاملة خالية من التعريفات الجمركية مع أفغانستان. 

البلدان يوقعان اتفاقيات في الطاقة والبنية التحتية. 

أفغانستان تحث خطاها لتنويع اقتصادها والاستفادة من ثرواتها المعدنية، روسيا تشطب طالبان من قوائم الإرهاب وتوقع معها اتفاقيات، والكثير الكثير من العناوين المبهجة، مؤشرات على خطى التعافي والنهوض.

على ما يحمله العرض السابق من مفارقة مؤلمة، مفادها أن المشكلة ليست في النماذج السلبية التي كان يخشاها الخطاب السياسي اليمني، بل في عدم القدرة على تجاوز عقلية الأزمة التي تسكن اللاوعي اليمني والتحول نحو البناء والتنمية. 

لم تكن الصوملة كنموذج حرفي هي المقصودة (كهاجس معيشي) في الخطاب السياسي اليمني، ولم تكن (الأفغنة) أيضاً كذلك، 

فقد كانت النخبة السياسية تدرك أن الواقع اليمني يعيشها بوجه أو بآخر، كان هناك أنموذج الـ(يمننة) على الصعيد السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي أسوأ من الصوملة والأفغنة ونذره كانت تنذر بما هو أسوأ، 

فقط لم تكن هناك بلدان ترغب في التهديد (بيمننتنا) لأن وجهتهم كانت نحو (الأمام) لا نحو (الإمام).

تكشف لنا هذه المفارقة أيضاً عن عامل جوهري في معادلة النهوض والانهيار - على الأقل كما تؤكدها التجارب السياسية المعاصرة، في ظل تنامي نظام الأقطاب – وهو "دور الحلفاء" أو بالأصح من حليفك؟

 فبينما استطاع الصومال وأفغانستان وغيرهما من الدول الناهضة أو الرامية للنهوض أن تجد الحليف الصادق والجاد في حِلفه، الذي يعينها على تجاوز أزمتها وتناقضاتها الداخلية، 

حلفاء يدفعون بتلك الدول نحو التنمية والبناء عبر اتفاقيات اقتصادية حقيقية ومشاريع تنموية ملموسة، وقع اليمن فريسة ما يمكن تسميته بـ "لعنة الحلفاء" ماضياً وحاضراً.

 حلفاء استثمروا في تحالفهم أزمة اليمن وتناقضاتها الداخلية من خلال إعادة تدوير صراعاته في سبيل تحقيق مصالحهم، ساعدهم في ذلك ضياع البوصلة الوطنية وأزمة النخبة السياسية. 

ولعل مقولة عن التحالفات تلخص جوهر المأساة اليمنية حين قال: "أسوأ من عدم وجود حلفاء في الحرب، هو وجودهم" وهو يعني أن الحلفاء مهمون في الحرب، ولكن إن حصلت على الحلفاء الخطأ فتلك مشكلة أكبر من الحرب نفسها. 

وإذا كان تشرشل قد عانى من حلفاء متقلبين في حرب محددة زمنياً، فإن اليمن يعيش مأساة أعمق مع حلفاء يديمون حروبه ويستثمرون في أزماته طوال تاريخه السياسي (ماضياً وحاضراً).

لم يكن الخطر الحقيقي في "الصوملة" أو "الأفغنة" كما روج الخطاب السياسي، فبالإضافة إلى معضلة وجود أسوأ نخبة سياسية عرفها التاريخ اليمني، 

يعاني اليمن أيضاً من أسوأ حلفاء في تاريخ التحالفات السياسية والعسكرية التي شهدها العالم المعاصر (مصفوفة حلفاء اليمن)، مصفوفة مأزومة وغير صادقة (على الصعيد الداخلي والخارجي)، 

تحالفات تنظر إلى اليمن ساحة لتصفية الحسابات وتحقيق المصالح، لا دولة تستحق النهوض والتنمية ووفاء الحليف. فبينما تمكن الصومال وأفغانستان وأذربيجان وأوكرانيا وغيرها من الدول من كسر هذه الحلقة المفرغة عبر تحالفات استراتيجية بناءة، 

ظل اليمن أسير حلفاء يستثمرون في بقائه في القاع، مكرسين نموذج "اليمننة" نمطا للفشل يتجاوز في مأساويته كل النماذج التي كان يخشاها الخطاب السياسي اليمني، حتى بات اليمني اليوم يتمنى لو يصبح اليمن صومالاً آخرا أو أفغانستان أخرى.
 
قالت العرب قديما: كالمستجير من الرمضاء بالنار، ومن استجار بذليل ذل، وتقول شخصية علي ولد زايد: "لا تَغْزُ إلا بقوم قد غزت". ونحن كانت أول نجدات حلفائنا لمستغيث من لظى الرمضاء أن جلبوا له النار فأحرقوه وأحرقوا داره.

أحمد عباس محمد الملجمي
كاتب وطالب دراسات عليا في ماليزيا