الشمال السوري ورهانات الخرائط الجديدة
فرضت معركة "طوفان الأقصى" وما تلاها من حرب متعددة المستويات والأماكن نفسها على صنّاع القرار السياسي على المستوى الدولي، فكان من الطبيعي أن تتعاطى القوى الإقليمية والمحلية مع هذا الحدث المفصلي انطلاقاً من أهميته وخطورته، إدراكاً من الجميع بأن هناك توازنات جديدة على مستوى منطقة غرب آسيا بأكملها، وهي التي تُعدّ المنطقة الأخطر في العالم في تحديد مساراته في الصراع على بنية النظام الدولي وعلاقاته، وبطبيعة الحال فإن القوى العسكرية والسياسية المسيطرة على أجزاء واسعة من الشمال السوري ليست بمعزل عن صراع الرهانات، ولها هواجسها وآمالها المتعلقة بالنتائج النهائية لما بعد انتهاء الحرب الأطول في تاريخ الصراع مع "إسرائيل"، فأي رهانات تسيطر على قوى الشمال السوري؟
عندما نتحدث عن قوى الشمال السوري، فإن ذلك يحمل الإشارة إلى وجود قوتين أساسيتين، الأولى هي مجموع القوى العسكرية المتعددة التي تقع تحت إدارة الاحتلال التركي، في مناطق واسعة من شمال غربي نهر الفرات، خصوصاً في ريف حلب الشمالي والغربي، وأجزاء واسعة من محافظة إدلب وجزء من ريف حماه الشمالي الغربي، بالإضافة إلى المناطق المحتلة بين تل أبيض ورأس العين شرق نهر الفرات، ورهانات هذه الجماعات واضحة بشكل كبير، وقد تُختزل من خلال الموقف الاجتماعي الشامت لبيئتها السياسية المحيطة بها، بمقتل أهم رمزين في المقاومة الإسلامية، بالرغم من إسلامية أغلب هذه القوى، وهي ترى بذلك انتقاماً لحرمانها من تحقيق أجندتها السابقة بالسيطرة على كامل الجغرافيا السورية بدعم غربي -تركي، والمرتكز الثاني ينطلق من إدراكها بأن تغليب أنقرة أولوية الأمن القومي التركي على مصالح الجماعات المسلحة سيتعزز في حال انتصار "إسرائيل"، وهي تتخوف من نتائج المصالحة السورية- التركية القادمة حكماً.
أما قوة الشمال الثانية فهي المتمثلة بحزب الاتحاد الديمقراطي وهو الوجه السوري لحزب العمال الكردستاني، وهو الذي يمسك بمفاصل القرار السياسي والعسكري بما تبقى من شمال شرق سوريا بشكل أساسي، واستطاع بعد هزيمة تنظيم "داعش" بعد تدخل القوات الأميركية، أن يبني تجربة سياسية منبثقة عن فكر عبد الله أوجلان الجديد بعد اعتقاله 1999 على يد المخابرات الأميركية والموساد الإسرائيلي، وتعاطى مع ما عدّه انهيار الدولة السورية بصيغتها السابقة وتفككها بمنزلة فرصة لا تعوّض لتحويل البنية النظرية إلى الواقع العملي، مع العمل على تعميمها على كامل الأراضي السورية في إطار حل سياسي هو الأقرب للكونفدرالية التي تعطي كل إقليم الحق ببناء جيشه الخاص بعنوان حماية الإدارة الذاتية لكل مكوّن من المكوّنات السورية.
وعلى الرغم من البنية النظرية المعادية لنظام الدولة القومية الحديثة كمنتج للحداثة الرأسمالية وفقاً لرؤية أوجلان، وطرحه لفكرة الأمة الديمقراطية كحل مُختلِف لإشكاليات البنى القومية المتشكلة ما بعد الحرب العالمية الأولى بقرار من نظام الحداثة الرأسمالية لتحطيم منطقة غرب آسيا، فإن ذلك لم ينعكس على الموقف من الولايات المتحدة باعتبارها الممسكة بالنظام القطبي المهيمن للحداثة الرأسمالية، وكذلك الأمر مع "إسرائيل" كتحصيل حاصل، وإن غابت العلاقة المباشرة معها، لكن موقفه الملتبس من الأحداث المصيرية لكامل منطقة غرب آسيا بعد معركة "طوفان الأقصى" جعلها من خارج رهانات شعوبها وليس دولها.
هناك موقفان أساسيان أخيران يوضحان طبيعة الرهانات السياسية لحزب الاتحاد الديمقراطي، وبمعنى آخر لحزب العمال الكردستاني بشكل عام، الذي تدير قياداته في جبل قنديل مجمل سياسات امتداداته في سوريا وتركيا وإيران، مع تمايز خفيف لحزب المساواة للعدالة والديمقراطية التركي "الكردي"، والموقف الأول هو ما صرحت به الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في "الإدارة الذاتية" لوكالة "هاوار" الكردية بأن"الجبهة المعادية لإسرائيل تخسر تدريجياً"، كما لفتت الانتباه إلى أن التصريحات الإسرائيلية التي تشير إلى أن الوضع بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر سيكون مختلفاً تماماً عما قبله، وأن المنطقة على أعتاب تغييرات كبيرة، وأن سوريا ستتأثر بالتغييرات الإقليمية بنسبة 100 %.
الموقف الثاني كان في بيان مؤتمر المسار الديمقراطي السوري، الذي انعقد في بروكسل بتاريخ 25-26 من هذا الشهر، وكان لـ"الإدارة الذاتية" الدور الأكبر في انعقاده بواجهة "مؤسسة أوليف بالمة" السويدية، فكانت مخرجات المؤتمر واضحة بالتعامل مع ما يحصل في فلسطين ولبنان من حرب إبادة باعتبارهما ساحتين من ساحات التطورات الإقليمية والدولية "وبشكل خاص الصراع الدامي في غزة وفي لبنان"، من دون الإشارة إلى مسؤولية "إسرائيل" ومن خلفها الولايات المتحدة والنظام الغربي عموماً عن حرب الإبادة والتهجير المستمرين منذ عام 1948 وحتى الآن.
هذا النحو بالسياسات المتبعة بالتعاطي مع ملف "إسرائيل" والغرب عموماً يؤكد طبيعة الرهانات المستمرة حتى الآن على إحداث التغيير السياسي السوري الداخلي بناءً على المصالح الغربية بالتغيير، وليس على رهانات الداخل السوري التي تتطلب تغييراً جذرياً عميقاً بعيداً من الغرب، المسؤول الأول والأخير عن استمرار تشظي مجتمعات غرب آسيا وشعوبها في سياق صراعه واستمرار سيطرته على المقدرات الاقتصادية لكل دول العالم، وهذا النحو من السياسات لا يختلف عن أغلبية قوى المعارضة، التي راهنت على قوى إقليمية ودولية لإحداث التغيير الداخلي، من دون الالتفات إلى أن هذه القوى الإقليمية والدولية لا تريد سوى تغيير التموضع الجيوسياسي لسوريا في إطار صراعها الدولي، وخلق بيئة آمنة لـ"إسرائيل" فقط.
على الرغم من ضرورات التغيير الداخلي الذي لا بد له أن يأتي ولصالح جميع السوريين بالشراكة في المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية كافة، فإن هذا التغيير لا يمكن أن يحصل بالركون إلى المتسبب الأول بما وصلنا إليه، بعد تجربة بائسة مع النظام الغربي منذ احتلال نابليون بونابرت لمصر 1798، وانطلاق ما يسمى "الثورة العربية البريطانية" 1916 وما تلاها من تحطيم للمنطقة غير القابلة لحدود فاصلة بين شعوبها، كما أن النجاح الداخلي لصالح السوريين لا يمكن أن يتحقق من دون ربط بين تغيير الداخل ومقاومة النظام الغربي بواجهته الإسرائيلية، فلا استقلال ولا نهضة من دون هذا الربط والمجاهرة به كموقف بالحد الأدنى.
النقطة الثانية والمهمة لرهانات المستقبل السياسي لسوريا ومنطقة غرب آسيا مرتبطة بتغيير النظام الدولي وتحوّله إلى نظام متعدد الأقطاب، وتشكل نظام إقليمي تكاملي قد يكون مصطلح الأمة الديمقراطية أحد مخارجها كمشروع يمكن العمل عليه، أو يمكن الوصول إلى قاسم مشترك جديد هو أحد أعمدتها.
وبغض النظر عن الموقف السلبي تجاه حركات المقاومة للنظام الغربي في منطقة غرب آسيا، فإن الواقع الراهن وبعد تجاوز هذه الحركات لكل ما حلَّ بها من زلازل، فإنها مستمرة في مواجهاتها وتتعافى بشكل سريع، وما عجز "الجيش" الإسرائيلي في الحرب البرية في جنوب لبنان ليس سوى تأكيد لطبيعة مسارات المنطقة واتجاهاتها، رغم كل حرب الإبادة والتهجير التي تتطلب إدانة أخلاقية واضحة بالاصطفاف مع المظلومين، وغير ذلك يضع القوى المراهنة على الغرب في موقع الاصطفاف الكامل في مشروعه التدميري للعالم.
أحمد الدرزي
كاتب سوري