الرياض ووحدة الأراضي السورية

 كان وصول ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى أبو ظبي ولقاؤه مع رئيس الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد، على الرغم من البرود الشديد بينهما في السنوات السابقة، بمثابة أهم مؤشّر على حجم المخاطر التي أدركتها الرياض ومعها أبو ظبي، من جرّاء الاجتياح التركي لمدينة حلب وريفها باستخدام هيئة تحرير الشام "جبهة النصرة سابقاً" وجماعات إسلامية سورية ومن آسيا الوسطى والقوقاز ومن الإيغور الصينيين، وما كان هذا التجاوز لجبل الجليد بين مسؤولي الدولتين أن يتمّ إلا إدراكاً بأنّ العمل التركي يأتي في سياق تغيير خرائط المنطقة السياسية والعودة إلى مشروع العثمانية الجديدة المهدّد للبلدين، مما دفع بالرياض التي تقود عملياً القاطرة العربية سياسياً للتحرّك سريعاً، فأين الرياض المعبّرة عن الموقف العربي مما يجري في سوريا ووحدة أراضيها؟

تشهد منطقة غرب آسيا صراعاً على الأدوار الإقليمية بفعل توسّع هوامش الخيارات أمام الدول العربية، التي تُعتبر جزءاً من السياسات الأميركية، من جرّاء انكفاء الأميركي من جهة ومن جرّاء صعود القوى الآسيوية من جهة ثانية، وينحصر هذا الصراع بين إيران وتركيا والسعودية، بالإضافة إلى "إسرائيل" التي تخوض حروباً وجودية في بحث البقاء في أعلى رأس الإقليم، وتدرك الرياض بأنها محكومة بالجغرافيا والتاريخ في علاقتها مع إيران الهضبة الإمبراطورية التي لا يمكنها تجاوزها، بالإضافة إلى تركيا الأناضولية المتوجّهة نحو الجنوب لتحقيق بعدها الإمبراطوري، وأما "إسرائيل" التي كانت تراهن على إمكانية استثمار قوتها في علاقات موازنة قوى الإقليم، فإذا بها تصل إلى نتيجة بعد طوفان الأقصى وحرب الجنوب فحواها القلق من دولة متفلتة بطموحاتها التوسّعية بما يقضم من أراضيها وطموحها، فكان شرطها الأخير تحقيق حلّ الدولتين التعجيزي للعودة إلى رهان التطبيع الذي لن ينجز.

هذا المشهد العام دفع بالرياض للبحث عن دور يوازن بين تركيا وإيران بالدرجة الأولى، فلم يكن هناك سوى الساحة العربية لتشكيل كتلة موازنة، والأمر لا يمكن إنجازه إلا بالنجاح باستقطاب سوريا العربية المُحادِدَة لتركيا الأناضول المُهدِّدِة تاريخياً لجنوبها من عصر الحيثيين، ولم يتوقّف عند العثمانيين، فتحوّلت سوريا بأهميتها من ساحة صراع وعدم الاستقرار المهدّد للإقليم بإفاضة مشكلتها الداخلية والإقليمية والدولية نحو محيطها، عدا عن علاقة الأمان مع إيران وحزب الله وبقية حركات المقاومة، التي تشكّل سوراً واقياً لحماية هشاشة جغرافيتها السياسية بفعل التوافق على مخاطر بقاء "إسرائيل" كعنصر غريب دائم التهديد لمحيطها القريب والأبعد، بما لا ينسجم مع سعي الرياض لتحقيق الاستقرار في المنطقة، بعد تجربة اليمن التي اكتسبت فيها أهمية عدم الدخول بحروب لا يمكن الإمساك بنتائجها.

اختلف التعاطي بعد وفاة الملك عبد الله وغياب الأمير بندر بن سلطان عن الإمساك بإدارة ملف تغيير التموضع الجيوسياسي لسوريا، ومجيء قيادة جديدة طموحة بإثبات الوجود، وبعيدة عن السياسات التقليدية المحافظة للأسرة السعودية الحاكمة، فبدأت رحلة استعادة سوريا للنظام العربي بعد أن طُردت منه عام 2012، فتوقّفت الرياض عن دعم الجماعات المسلحة في ريف دمشق وبقية المناطق، من دون الاندفاع نحو دمشق، لعدم الرضا عن العلاقات الإيرانية السورية من جهة، والخشية من إغضاب الأميركيّين من جهة ثانية.     
 
أدركت الرياض مع استهداف منشآتها النفطية في أقبيق شرق السعودية عام 2019 من قبل أنصار الله اليمن، وعدم تدخّل الأميركيّين لصدّ الهجمات الصاروخية، ثم سحبهم لصواريخ الباتريوت منها، بأن العالم الذي عرفته قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 قد بدأ بالانحسار، وأنّ عليها أن تنسج علاقات مع قوى وفواعل دولية تشكّل صمام أمان لها وبديلاً مستقبلياً يستطيع ملء الفراغ التدريجي لانكفاء الأميركيّين، فكانت العلاقة الجريئة مع روسيا والصين كقوّتين منافستين للولايات المتحدة وهما ترتبطان مع إيران بعلاقات وثيقة، وانتهى بها الأمر للمصالحة مع إيران من دون تسارع بتغيير التعاطي مع سوريا، وبقائها على موقفها السابق بضرورة نأي دمشق بنفسها عمّا تعتبره مُنافِستها الإقليمية وعن حزب الله، وتحوّل ذلك إلى شرط بالإقبال عليها.

طموح مغلّف بالقلق

على الرغم من القدرات المالية الهائلة والموارد التي تتمتع بها السعودية واستحواذها على قيادة الدور العربي المضمحل في منطقة غرب آسيا، إلا أن ذلك يشكّل قلقاً لها بعلاقتها مع النظام الغربي الذي يطمع باستلابها بأشكال متنوّعة، عدا عن التأثيرات المحتملة على الداخل السعودي كنتيجة للقضية الفلسطينية في إثر الحرب المستمرة لطوفان الأقصى، ولكن أكثر ما يقلقها هو الدور التركي المعبّأ بتاريخ إمبراطوري باحث عن مداخل العودة، ولا يستطيع البقاء ضمن حدوده الحالية فيسعى للتمدّد عبر البوابة الجنوبية "سوريا"، وهو يحمل القدرة على منافسة الدور السعودي في قيادة العالم الإسلامي، ومُحمَّل بقوى إسلامية تشكّل بديلاً مُهدّداً للأنظمة السياسية العربية بما في ذلك السعودية، لكن ذلك لم يدفع بالرياض للتحرّك في مواجهة المخاطر المقبلة من الشمال، إلى أن حصل اجتياح تركي لحلب أشبه بإعادة الغزو العثماني لبلاد الشام عام 1516.

تأخّرت الرياض كثيراً في استيعاب المخاطر المقبلة إليها من الشمال، فهي كان من المفترض أن لا تتدخّل في الحرب السورية بالأساس بعد 2011، فالنفوذ التركي واضح جداً على كتلة سكانية واسعة من السوريين، إن كان لأسباب إثنية "التركمان" أم لأسباب تاريخيّة مرتبطة بالثقافة العثمانية المتبقّية، أم لأسباب دينية مذهبية، وكان الموقف الأسلم لها هو أن تحمي جغرافيتها السياسية بدعم سوريا كي تكون حاجز صدّ أمام التوسّع التركي بدل أن تتلاقى معه بعنوان إزاحة إيران.  

تغيّر موقف الرياض بعد مشاهد اجتياح إسلاميّي تركيا متعدّدي الجنسيات لحلب ومحاولات توسّعهم نحو وسط سوريا وصولاً إلى الجنوب السوري، وأصبح التهديد واضحاً بتأثّر إسلاميّي السعودية الذين أُزيحوا عن المشهد الداخلي والخارجي، وهم الناقمون على السياسات الجديدة للرياض، وهذا ما دفع بها للتحرّك لتدارك خلخلة قواعد الجغرافيا السياسية الحالية، فهي إن خسرت سوريا العربية الضرورية للدور المتصاعد، فإن ذلك يجعلها في مواجهة مباشرة مع دور تركي زاحف إلى حدودها وربما إلى داخلها.

أصبحت سوريا الموحّدة القوية ضرورة لصانع القرار السياسي السعودي، فتمزيقها سيسلبها دوراً إقليمياً حامياً لها، عدا عن حرمانها من الطريق البري نحو الشمال باتجاه القارة الأوروبية وأوراسيا، وهي بأمسّ الحاجة لتقوية حاجز الصدّ الوحيد لمخاطر توسّع الدور التركي الذي لا يتوقّف عليها، وهذا ما يمكن أن نشهده من تحوّل بالموقف السعودي ومعه الإماراتي والمصري والأردني وبقية الدول العربية، القلقة من الإسلام السياسي الحامل لمشروع العثمانية الجديدة، الأمر الذي يقتضي إعادة تحديد المخاطر، فما جرى في حلب ليس بعيداً عن القرار الإسرائيلي الأميركي بتدمير سوريا للوصول إلى شرق أوسط جديد على حساب جغرافية الجميع، فهل سنشهد تحوّلاً دراماتيكياً في الموقف العربي في سوريا على سبيل حماية نفسه؟  

أحمد الدرزي
كاتب سوري