Logo

الشيوعيون والنوم في العسل

 الشيوعيون، على ندرتهم هذه الأيّام، نستطيع القول عنهم: إنهم في نومٍ عميق، وأين يا رفيق؟ في العسل!

هل يحتاج هؤلاء القوم يا تُرى إلى من يوقظهم؟ 

وهل هم في غفوةٍ أم في غفلةٍ حقيقية، مع أنّ شخيرهم وصل إلى عنان السماء؟

 وقد يسأل سائل: ولماذا تأمل منهم أن يستيقظوا إذا كان نومهم في العسل؟

 حيث يزعم بعضهم (من النيام طبعاً) بأنّ الشيوعية ستسود العالم مهما حاول هذا العالم الإعراض عنها. 

هل تجد من يُصدّق أضغاث الأحلام هذه؟ نعم، بكلّ تأكيد تجد من يُصدّقها، لأنّ الشيوعية تحوّلت في مائة عام إلى عقيدة مُقدّسة تبعتها الأحزاب الشيوعية العالمية.

لما حاول بلاشفة روسيا بقيادة حكيمهم لينين قلب الدنيا لصالح العمال والفلاحين، نزلت عليهم نازلة من بينهم. 

وكان لينين قد وعدهم في مقالٍ خطير، منشور في جريدة البرافدا في العدد 251 بتاريخ السابع من نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1921، أنه حين ننتصر في النطاق العالمي، سنصنع من الذهب، كما أعتقد، مراحيض عامة في شوارع بعض أكبر مدن العالم، وسيكون ذلك أعدل استعمال للذهب وأوضحه دلالة للأجيال التي لم تنس أنه بسبب الذهب ارتُكبت أبشع المجازر بحقّ الإنسان.

مآزق عديدة وقع فيها هؤلاء القوم خلال مئة عام تتلخص في التناقض بين جوهر الشيوعية، وبين ظاهرها، أي شكلها، مظهرها، والذي يتبدّى في الأحزاب الشيوعية التي تحتكر هذا المدى الفسيح للفكر الشيوعي وتجعل منه عقيدة، شريعة، راية حمراء، مطرقة ومنجلاً، لا يأتيها الباطل، لا من بين يديها ولا من خلفها، شعارات، أيقونات، معبودات، مثل شجرة الزقوم التي لا تُسمن ولا تغني من جوع.

يزعم البعض أنّ الشيوعية ستسود العالم مهما حاول الإعراض عنها

في الواقع، أو على صعيد الواقع، والرفيق لينين يؤكّد بأنّ الواقع أشياء عنيدة، تذهب الشيوعية في تصنيفها إلى شراذم. والشرذمة ليست شتيمة كما يُظن، بل هي في اللغة القليل من الناس، وفي التنزيل العزيز: "إن هؤلاء لشرذمةٌ قليِلون"، وتشرذم الناس تفرّقوا بشكل فوضويّ، تشرذمت الأمّة فصارت ضعيفة مستباحة. وتشرذمت الأحزاب الشيوعية فصارت مزقاً، ويقال: ثوبٌ شراذمُ، وثياب شراذمُ: ممزّقة خَلَقة.
 
يغيب الجوهر الحقيقي للفكر الشيوعي، ويصبح المتخيّل أكثر حضوراً من الواقعي، وبذلك يتوقف قلب الشيوعية عن الخفقان، بوصفها حركة ثورية، وتتحول إلى شبح مُهجّن، كسول، لا يُرعب أحداً، ويُصبح حامل الفكر الشيوعي متجهّم الفكر والوجه، ثقيل اللسان، كئيباً، عابساً، يميل إلى الانطواء، والخوف من الآخر، ويتمترس خلف متاريس من أوهامه، ويفقد صفة العطاء، ويطرح الجدل من حياته، ويعيش في عزلة، فينفضّ الخلق من حوله، لا يطاول بلح الشام ولا عنب اليمن. 

وهذا عملياً حال الأحزاب الشيوعية في أغلب دول العالم، ومنها الدول العربية. ما العمل يا رفيق لينين؟

 أعتقد أنّ العودة مفيدة بهذا الشأن إلى كتاب المفكر الباكستاني البريطاني طارق علي "مآزق لينين"، الذي صدرت ترجمته العربية من دار الكتب خان سنة 2018.

إنّ كتاب "مآزق لينين" تأريخ شديد العمق والجدية لحياة وعصر لينين، بوجهيه الشخصي والسياسي، ولعلّ التاريخ لم يرتبك في توصيف شخصيّة تاريخية كما فعل مع لينين، إذ يراه البعض ديكتاتوراً، ويراه البعض الآخر ثائراً وزعيماً، ومُخلّصاً. وبين الديكتاتورية والزعامة، تظلّ ملامح الحقيقة ضبابية وغائمة، وهذه تحديداً هي المهمّة التي حملها الكتاب على عاتقه.

لم يرتبك التاريخ في توصيف شخصيّة تاريخية كما فعل مع لينين، إذ يراه البعض ديكتاتوراً، ويراه البعض الآخر ثائراً وزعيماً ومُخلّصاً

يرصد طارق علي في كتابه شخصية لينين بكلّ تقلباتها وتناقضاتها، فيقدّمه في تجلياته المختلفة: لينين الثوري والسياسي، قارئ الأدب وعاشق الموسيقى الكلاسيكية، ربّ الأسرة ورجل الدولة. وعبر مئات الكتابات والوثائق، يتتبّع طارق علي صورة لينين، نافضاً الغبار عن سيرته ونصوصه، لكي ينقذها من التحنيط، ومن استغلال الأعداء والأصدقاء، ويعيد وضعها في سياقها التاريخي الملائم.

كلّ شيء كان لينين يخشى حدوثه حدث بالفعل، بداية مما فعله تلميذه جوزيف ستالين بالجسد الميت، مع أنّ عائلة لينين، وخاصة أرملته، عارضت بقوة تحنيط جسده حتى لا يتحوّل لينين الثوري إلى قديس بيزنطي. 

حيث وقفت الأرملة إلى جانب نعش زوجها في الجناز وألقت خطاباً هادئاً، قالت فيه: أيها الرفاق، العاملون والعاملات، والرجال والنساء الحاضرون، لدي طلب عظيم منكم: لا تنصبوا تماثيل له، أو تُسمّوا قصوراً باسمه، أو تنظموا احتفاليات وقورة وفخمة لذكراه، لم تكن لهذه الأشياء قيمة كبيرة في حياته، بل حتى كانت عبئاً عليه. تذكروا عدد الفقراء والمشردين في بلادنا.

 إذا كنتم تريدون تكريم اسم لينين، فأنشئوا بيوتاً للأطفال ورياضاً لهم ومنازل ومدارس ومكتبات ومرافق إسعاف ومستشفيات ومنازل للمصابين، وقبل كلّ شيء، كونوا شهادات حيّة على مُثُله.

عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.