اليمن: أرض الحضارات التائهة ووجع الحاضر المثقل
كم هو مؤلم أن تنظر إلى خريطة التاريخ وتجد اسم اليمن محفوراً بأحرف من نور، أرضاً للحضارات العريقة، مملكة سبأ وبلاد حمير، مهد الأجداد الذين شيدوا السدود وأقاموا الصناعات وتاجروا بالبخور والبهارات،
ثم تعود ببصرك إلى واقعنا المعاصر فلا ترى إلا أرضاً ممزقة، وشعباً يعاني ويلات الحروب والصراعات، وسمعةً ملطخةً بوصمة الإرهاب.
لقد كانت اليمن بحق "أرض الممالك" و"أرض التيجان"، كما شهدت على ذلك النقوش والآثار. كانت حضارة مزدهرة، يشهد عليها سد مأرب العظيم، الذي يروي قصة إبداع هندسي فريد.
كانت اليمن مركزاً تجارياً هاماً، تربط الشرق بالغرب، وتصدر خيراتها إلى أصقاع بعيدة. كان أهلها حرفيين مهرة، وصناعاً بارعين، بنوا وشيدوا وأبدعوا.
وعندما أشرقت شمس الإسلام، كان لليمنيين شرف السبق في اعتناقه ونشره. لم يتوانوا في تلبية نداء الحق، وكانوا من أوائل من وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم مبايعين ومناصرين.
بل إن لهم دوراً عظيماً في الفتوحات الإسلامية، حيث كان منهم القادة والجنود والعلماء الذين ساهموا في نشر الرسالة في ربوع المشرق والمغرب.
لقد خرج من اليمن رجال أفذاذ، منهم المهندس الذي بنى مدينة الفسطاط في مصر، ومنهم المعماريون الذين تركوا بصماتهم الواضحة في عمائر الشام والمغرب العربي والأندلس.
لقد تفرقت خيرات اليمن من حرفيين ومهنيين في أصقاع الأرض، حاملين معهم خبراتهم وإبداعاتهم.
ولكن، ويا للأسف، لم يشفع هذا التاريخ المشرف لليمنيين في حاضرهم. فبدلاً من التقدير والاحترام، وجدنا أنفسنا نواجه العنصرية والتنمر، وكأننا نحمل وزر أخطاء لم نرتكبها.
أصبحنا ندفع فاتورة انتمائنا للإسلام، الذي ساهمنا في نشره، تحت مسمى الإرهاب، سواء كان ذلك من قبل الحوثيين أو غيرهم.
إن الفتوحات الإسلامية التي شارك فيها أجدادنا بكل إخلاص، هي التي مكنت مناطق أخرى، كالمملكة العربية السعودية، من جني مليارات الدولارات من عوائد الحج والعمرة، من دين انتشر بفضل جهود المسلمين الأوائل، وكان لليمنيين فيهم نصيب الأسد.
لقد خرج اليمنيون من اليمن باحثين عن الرزق والأمان، لكنهم وجدوا الأبواب موصدة في وجوههم، وكأنهم يحملون لعنة أبدية. حتى أن أي عمل تخريبي أو إرهابي يحدث في أي مكان، يُتهم به اليمني، وكأن الإرهاب قدر محتوم علينا.
واليوم، نجد أنفسنا نتقاتل على أرضنا تحت رايات الإسلام، سنة وشيعة، وكأن صراعات الماضي قد انتقلت إلى ساحاتنا. لقد تفرغت اليمن من خيرة رجالها، قادة وحرفيين ومهنيين، ولم نجني من كل ذلك إلا التهم خارجياً والصراعات داخلياً.
نحن اليمنيون، نفخر بإسلامنا ولله الحمد، ولكن الحقيقة المرة هي أننا لم نجني لليمن سوى الخراب والموت. لقد جارت علينا الأيام، وجار علينا بعض إخواننا في العروبة والإسلام.
فبدلاً من أن نكون سنداً وعوناً لبعضنا البعض، أصبحنا لقمة سائغة في فم الفتن والصراعات.
إن ما نعيشه اليوم هو شعور مرير بالظلم والإجحاف. لقد استُنزفت اليمن وخيرة رجالها، وبفضل تضحياتنا، تجني دول أخرى الخيرات، بينما نحن نكتوي بنار الحروب والفتن. حتى داخل وطننا، لم نسلم من صراعات تُرفع فيها رايات الدين.
إنها مفارقة مؤلمة، أن يكون اليمن، الذي كان في يوم من الأيام منارة للحضارة والإيمان، يعيش اليوم أسوأ أيامه. أن يتحول أبناؤه إلى قتلة يقتلون بعضهم البعض باسم الدين، وأن يُنظر إليهم في الخارج بعين الشك والريبة.
إن هذا المقال ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو صرخة ألم من قلب يمني، يشعر بالمرارة والأسى على ما آلت إليه حال بلاده. إنه تساؤل مشروع: إلى متى سيظل اليمن يدفع ثمن تاريخه وجغرافيته؟ وإلى متى سيظل أبناؤه يعانون من التهميش والظلم؟
نحن اليمنيون، ما زلنا نؤمن بأن غداً سيكون أفضل، وأن شمس العدل ستشرق على أرضنا من جديد. ولكن هذا لا يعني أن نصمت عن الحقائق، أو أن نتجاهل الجراح التي تنزف.
يجب أن نرفع صوتنا عالياً، مطالبين بالإنصاف والتقدير، ومؤكدين على أن اليمن كان وسيظل جزءاً أصيلاً من الأمة العربية والإسلامية، وله فيها حقوق وعليه واجبات.
رحم الله شهداء اليمن، وشفى جرحاه، وألهم أهله الصبر والسلوان. وعسى أن يعود اليمن سعيداً كما كان، أرضاً للحضارة والأمن والسلام.
بقلم: عبدالله الشرعبي