Logo

الحقيقة.. بين تزوير التاريخ وانكشاف الواقع !!

 لطالما كان التاريخ أداة في يد المنتصر، فهو من يكتبه ويعيد تشكيله وفق مصالحه وأهوائه.

 فالتاريخ القديم حافل بالأحداث التي رُوِّج لها على أنها الحقيقة المطلقة، بينما هي في الواقع نسخ منحازة ومحرّفة، صيغت لخدمة قوى معينة أو لإخفاء الحقائق المزعجة التي قد تهدد هيمنة المنتصرين. 

لقد كانت هذه الظاهرة جزءًا من النظام العالمي القديم، حيث لم يكن لعامة الناس أي وسيلة للتحقق أو الاطلاع على وجهات النظر الأخرى.

عبر العصور، كانت الحضارات التي تهيمن على الأرض تُعيد كتابة التاريخ وفقًا لرؤيتها، فتجعل من نفسها محورًا للفضيلة والحكمة، بينما تُصور خصومها على أنهم بربريون، خونة، أو مخربون. 

نرى ذلك في الإمبراطوريات الكبرى مثل الرومانية والفارسية، التي صورت أعداءها كهمج غير متحضرين. 

كذلك، فإن الفتوحات العسكرية عبر التاريخ رُوِّج لها على أنها تحرير وعدالة، بينما في كثير من الأحيان كانت احتلالًا ونهبًا. كما أن الأنظمة الاستبدادية استغلت التاريخ لصياغة روايات بطولية، تخفي الممارسات القمعية أو المجازر التي ارتكبت بحق الشعوب. 

لم يكن للعامة أي وسيلة لمعارضة هذه الروايات، فقد كان الإعلام محصورًا في يد السلطة، والتعليم موجَّهًا لخدمة الأيديولوجيات الحاكمة، ولم تكن هناك مصادر بديلة للتحقق.

مع دخولنا عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، تغيرت قواعد اللعبة تمامًا. لم يعد بإمكان أي جهة احتكار الحقيقة أو تزييف الوقائع دون أن تجد من يفضحها.

 فالمعلومات باتت تنتشر بسرعة غير مسبوقة، ويمكن لأي شخص أن يتحقق من الأحداث عبر مصادر متعددة، مما أدى إلى تآكل سلطة «المؤرخ الرسمي» الذي كان يتحكم بالرواية التاريخية. 

لقد رأينا كيف أن محاولات التلاعب بالحقائق في العصر الحديث غالبًا ما تفشل، فالحروب والصراعات السياسية تُوثَّق بالصوت والصورة، وأي رئيس أو مسؤول يحاول تزييف الأحداث يجد نفسه أمام سيل من الأدلة التي تدحض روايته. 

لم يعد من السهل وصم الثوار بأنهم مخربون، أو تبرير المجازر بحجج واهية، فالشعوب باتت تمتلك الأدوات اللازمة لمساءلة السلطات وكشف زيفها.

تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في كشف التلاعب والتزييف. فقد أصبحت المنصات مثل تويتر، فيسبوك، ويوتيوب ساحات للنقاش المفتوح، حيث يمكن للناس مشاركة الأدلة، ونشر مقاطع الفيديو، وتحدي الروايات الرسمية. 

ورأينا كيف ساهمت هذه الأدوات في كشف الفساد، فضح الأنظمة الاستبدادية، وحتى إسقاط حكومات. لم يعد بإمكان الحكومات السيطرة على تدفق المعلومات كما كان الحال في الماضي، بل حتى القنوات الإعلامية التقليدية أصبحت مُجبرة على مجاراة الحقيقة التي تظهر على الإنترنت، مما عزز الشفافية وحرية الوصول إلى المعلومات.

اليوم، لم يعد بإمكان أي حاكم أو مستعمر إخفاء جرائمه أو طمس الحقائق كما كان يحدث في الماضي. أي إبادة جماعية، أو قمع دموي، أو انتهاك لحقوق الشعوب، يتم توثيقه بالصوت والصورة وينتشر خلال لحظات ليصل إلى العالم أجمع.

 لم يعد بإمكان الطغاة استخدام أدوات الإعلام التقليدية لحجب الحقيقة أو إعادة صياغتها لصالحهم. حتى الأحداث الصغيرة التي تقع في أي بقعة من العالم تنتشر بسرعة هائلة، مما أوصد الأبواب في وجوه المستبدين والمجرمين، فلم يعد بإمكانهم كتابة التاريخ وفق أهوائهم. 

هذه التحولات جعلت من الصعب جدًا لأي نظام قمعي أن يتحكم في السردية التاريخية أو يفرض رؤيته على الشعوب كما كان يحدث في السابق. لقد انهارت سلطة التزييف، وحلّ عصر الحقيقة بلا قيود.

بقلم: أ. عبدالله الشرعبي