Logo

الخراب القادم من الكهف

 نستحضر في هذا المقال، برؤية مستلهمة من أحداث مسلسل "الموت القادم إلى الشرق"، صورة معكوسة للواقع اليمني الراهن. 

في قلب الشرق النابض، حيث تترقرق حكايات الرمل وتتوشح الليالي بعبق البخور، كانت هنالك "مدينة النور". لم يكن اسمها مجرد صدفة لغوية، بل كان انعكاسًا لروح أهلها، لبساطتهم المتناهية، ولصفاء قلوبهم الذي يضيء كالفجر الصادق. 

كان حاكمهم "نهار"، اسم على مسمى، رمزًا للوضوح والاستقامة، لرجل فتح أبواب مدينته وقلبه للريح العابرة دون خشية أو ارتياب.

هكذا كانت اليمن، ولا تزال في جوهرها، أرضًا تجود بالطيبة كما تجود بتربتها الخصبة. شعب يفتح ذراعيه للضيف، يتقاسم كسرة خبزه بابتسامة، ويستقبل الغريب وكأنه فرد من العائلة. 

هذه السمة الأصيلة، هذا النقاء الفطري، كان ولا يزال جوهر الروح اليمنية.

ولكن، كما يجتذب الضوءُ الفراشاتِ، ويستقطب العسلُ النملَ، فإن الطيبة المفرطة قد تغري الذئاب المقنعة. 

هكذا، تسلل "الغرباء" إلى مدينة النور. لم يأتِ الغرباء بصورة وحش كاسر يُرى بأم العين، بل تقنع بقناع المصلحة، وتلفح بعباءة الدين، وتدس سمومها في ثنايا الخطاب المعسول.

 استغل الغرباء طيبة أهل المدينة، وبساطة قلوبهم، وثقتهم الفطرية في الآخر.

كما استغل الغزاة على مر العصور طيبة اليمنيين. أتوا بزخرف القول، وبرايات كاذبة، وبوعود معسولة، مستغلين كرم الضيافة وسماحة النفس. دخلوا بيوتهم آمنين، ثم ما لبثوا أن قلبوا الموازين، واستباحوا الحرمات، وحولوا النور إلى ظلام دامس. 

لقد تركوا البلاد في فوضى عارمة وجهل مطبق، ونشروا الخراب في كل مكان.

إن "الغرباء" الذين حلوا بمدينة النور، كما هم قوى خارجية وداخلية تسعى لفرض أجندتها في اليمن، لم يكونوا مجرد قوة غاشمة من الخارج. لقد استغلوا نقاط الضعف الداخلية، وتغذوا على الانقسامات، وتلاعبوا بالأحلام المؤجلة. 

ليس لديهم مشروع إلا الموت وكثرة المقابر، وشعار الموت يعلو كل جدار وعلى الساريات والسيارات والمدارس. لقد كانوا سرطانًا بطيئ النمو، تسللوا بخبث وتغلغلوا بصمت حتى استشروا في الجسد كله.

حين يستباح الصفاء، وتُطعن الطيبة في خاصرتها، فإن المدينة تفقد روحها، ويخبو نورها. 

يصبح أهلها غرباء في ديارهم، وتتحول البسمة إلى دمعة، والأمل إلى يأس. يصبح "نهار" حاكمًا بلا حول ولا قوة، طيبته تتحول إلى لعنة تطارده، وثقته بالآخرين تصبح وصمة عار في جبين التاريخ.

ولكن، هل يعني هذا أن الطيبة ضعف؟ هل يعني أن الصفاء غباء؟ أبدًا! إن الطيبة جوهر الإنسانية، والصفاء منبع النقاء الروحي. المشكلة ليست في الطيبة ذاتها، بل في سذاجة التعامل مع الخبث، وفي عدم القدرة على تمييز الذئب في ثياب الحمل.

إن استعادة "نور المدينة" المذبوح، كما هو استعادة يمن السلام والأمان، يتطلب أولًا وقفة مع الذات، ومراجعة عميقة لطريقة تعاملنا مع الآخر. يتطلب يقظة فكرية، وحصانة من الأوهام، وقدرة على قراءة ما بين السطور.

إن الانقلاب على "الغرباء" لا يكون بالضرورة بالقوة الغاشمة وحدها، بل بالوعي المستنير، وبالوحدة الصلبة، وبالإصرار على استعادة القيم الأصيلة التي بنيت عليها المدينة. 

يجب أن يتحول "نهار" من رمز للبساطة الساذجة إلى رمز للحكمة المتيقظة، وأن تستلهم طيبته قوة الحق وصلابة المبدأ.

إنها معركة وجود، معركة بين النور والظلام، بين الصفاء والخُبث، بين الطيبة والاستغلال. 

وإن النصر في هذه المعركة لن يكون ممكنًا إلا إذا استوعبنا الدرس جيدًا: الطيبة فضيلة، ولكنها بدون فطنة تصبح ثغرة يدخل منها الأعداء. 

والصفاء جمال، ولكنه بدون حذر يصبح سذاجة قاتلة.

فلنتذكر دائمًا "مدينة النور" و"نهارها الطيب"، ولنتذكر كيف استُغلت طيبتهم. ولنجعل من هذه الذكرى وقودًا لإيقاظ الوعي، وحافزًا للوحدة، وبوصلة نحو استعادة النور المسلوب. 

فاليمن، كما كانت "مدينة النور"، تستحق أن تشرق من جديد، بنور الحكمة والشجاعة، لا بنور البساطة وحدها.

بقلم: أ.  عبدالله الشرعبي