زمن التفاهة... زمن ما بعد الثقافة
لم تؤسّس الثقافة العربية سلطتها الخاصّة، ما جعل المثقّف يحيا وعينه على سلطة السياسة، وعمل على ربط أيّ مشروع ثقافي بمشروع سياسي، ليعدّل من الاختلال الكبير لمصلحة السياسة، وليجد سلطته من خلال الارتباط بمشروع سياسي يكون حاملاً لمشروع ثقافي، يعتقد هذا المثقّف أنه يحمله بالنيابة عن الأمّة.
ولعدم حاجة السلطات العربية إلى المشاريع الثقافية الجديّة، وجد المثقّف نفسه يعاني من الهامشية.
فالثقافة العربية لم تستطع تأدية دورها من دون توسّل سلطة أخرى تفتح لها باب التأثير. لذلك، انقسم المثقّفون، إمّا باحثين عن موقع في إطار السلطة، أو هامشيّين يشعرون دائماً بأنهم في موقع أصغر منهم، وتمترس كلّ بموقعه، ليبدأ الحرب ضدّ الآخر.
شغل سؤال الثقافة والسياسة الأوساط الثقافية اليسارية طوال العقود القليلة المنصرمة، فقد شكّل هؤلاء الكتلة الرئيسة للمثقّفين في نصف العقد المنصرم،
وسيطرت كلٌّ الحيرة والانقسام اليساري على تصنيف الاستبداد السياسي الشمولي الذي ساد بعض دول المنطقة، بعد الانقلابات العسكرية التي اجتاحت بلداناً مثل مصر وسورية والعراق والجزائر واليمن وليبيا، ألحقت هذه الانقلابات كلّ شيء بالسياسة،
ليس الثقّافة فحسب، بل الاقتصاد والمجتمع والتعليم أيضاً، وقضت على هامش الحرّية الذي تأسّس في مرحلة التجربة الاستعمارية؛ حرّية التعبير وتأسيس الأحزاب. فعلى مستوى الحرّيات،
لم يُعتقل أحدٌ على خلفية حرّية التعبير في تلك الفترة، فقضت الانقلابات العسكرية على هذا الهامش بعد خروج الاستعمار من المنطقة.
في ظلّ هذه الأوضاع كان على المثقّف أن يجيب عن سؤال الثقافة: أي فعاليّة وأي دور للثقافة في المجتمعات العربية في ظلّ طغيان السلطة السياسية؟
وكان من الطبيعي أن يعيد كثير من المثقّفين سؤال الثقافة إلى سؤال السياسة، بوصف الثقافة ملحقة بالسياسة، على قاعدة الترابط بينهما، وهو ترابط لا فكاك منه في تحليل الأوساط اليسارية الذي ساد منذ الثمانينيّات.
وبذلك تفقد الثقافة استقلاليتها تماماً، وتصبح الثقافة درساً في السياسة بامتياز، فرأينا مشاريعَ ومنابرَ ثقافية ارتبطت بقوى سياسية وأصبحت امتداداً لها،
وأصبحت الديباجة تقول، إنه الترابط بين الثقافة والسياسة، الثقافة بوصفها درساً في السياسة، والسياسة تنحرف من دون الثقافة. إن هذا التوحيد بين السياسي والثقافي، أعاد ترتيب الاصطفاف السياسي والثقافي ليوحّد بينهما.
فكل اصطفاف سياسي هو اصطفاف ثقافي بالضرورة، ولا يمكن للمثقّف صاحب الموقع في المؤسّسة الرسمية، إلا أن يكون مخلصاً لصاحب المؤسّسة ثقافياً.
وحتى عندما يتجاوز المثقّف دوره المرسوم في المؤسّسة ذاتها لاعتبارات مختلفة، فإنه يُفصح عمّا تضمره المؤسّسة، التي تُعلِنه عبر هذا المثقّف، لأنه لم يحن الوقت لتُعلِنه هي، فيُستخدَم المثقّف بالون اختبار، ويتحوّل ناطقاً غير مباشر للسلطة السياسية.
مع الاشتراطات الثقافية التي كتب مثقّفون يساريون عنها أساساً وخلفيّة ثقافية للعمل السياسي، يأخذ العمل السياسي طابعاً أخلاقياً، وهذا ما يخرجه من السياسة كما مورست تاريخياً، ويُدخله في باب علم الأخلاق.
وكان من الطبيعي في ظلّ هذا المفهوم، أن يُطالب بعضهم بتغيير القاموس السياسي، ليحلّل قضايا مثل الصدق والأمانة والوضوح، بدل أن يُحلّل قضايا مثل الوطن والنصر والهزيمة والمصالح المتناقضة والتمثيل السياسي في المجتمع والعقد الاجتماعي... إلخ من القضايا السياسة.
وعند الذهاب مع التحليل إلى نهايته، نجد أن الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة حسب هذا المنطق،
إمّا إلغاء السياسة نهائياً، وإما إحلال المثقّف في السلطة مكان السياسي، لعدم وجود مشروع سياسي من دون مشروع ثقافي، والمثقّف هو الأقدر على معرفة ماهية المشروع الثقافي، والتزام المشروع السياسي به، بوصف المشروع الثقافي حامل القيّم، والسياسي حامل الرذيلة.
كما ظهرت وجهة نظر أخرى تتحدّث عن معارضة المثقّف المطلقة للسلطة، فهو لا يستحقّ اسمه، إلا من خلال موقعه في معارضة السلطات، أي سلطات بالمعنى المطلق للكلمة.
فالمثقّف الباحث عن دور مسؤول عليه أن يكون معارضاً في الحالات كلّها، ولا دور للمثقّف من دون أن يكون معارضاً، حتى لو كان يعمل من داخل السلطة، وبوظيفة سياسية وليست ثقافية.
عندما يفقد المثقّف رضا السياسي، يتحوّل إلى "المثقّف الآخر"، المثقّف المسؤول، ويمكن بذلك نسيان تاريخه السابق، فهو يُولد من لحظة فقدان رضا السياسي عنه.
مع "المثقف الآخر"، الشهيد خاصّة، ارتفع المديح إلى درجة القداسة، وأصبح ما قاله بمرتبة قداسة الشهادة ذاتها. ويصبح المثقّف المبدع صاحب رؤية واضحة في كلّ شيء، والكلام الذي لا معنى له قمّة الوضوح.
هكذا تعاملت بعض الأوساط اليسارية الفلسطينية مع غسّان كنفاني، بوصفه يكتب المقدّس من دون تمحيص، ولم يجرؤ مثقّف فلسطيني على اعتبار بعض كلام كنفاني ساذجاً، مثل قوله: "إن البديل الوحيد لقمّة الأنظمة هو قمّة الجماهير".
هذا الكلام الذي ينتمي إلى الدوغما، يصبح "ما يقوله العقل السليم"، من دون أن يُرى في الشهيد إنساناً له وجهة نظر يمكن الاختلاف معها، فهو إنسان من لحم ودم، وحتى إن تحوّل شهيداً.
ورفع المثقّف الشهيد إلى مرتبة المقدّس تمنع على الآخرين تصويره إنساناً عاديّاً. لهذه الاعتبارات لا يمكن توجيه النقد إلى "مثقّفنا"، لأن ذلك مسٌّ بالمقدّس.
كما أن رفع هذه القدسية إلى مرتبتها العليا، تجعل أي كلام عن إنسانية الشهيد شيئاً قذراً يمسّ قدسيته.
لذلك، كان موقف المثقّف ذاته قاسياً في تعليقه على نشر غادة السمّان كتاب رسائل غسّان كنفاني إليها، فاعتبر هذا مسّاً بقدسية الشهيد، من دون أن يعي أن ذلك يُلغي إنسانية كنفاني ويضعه فوق البشر،
وهو الذي من حقّه أن يمارس الأشياء الجميلة، مثل أن يقع في الحُبّ أو الأشياء الرذيلة، مثل الخيانة الزوجية، أو سلوكيات تشوبها علامات استفهام.
وهذا التعامل في حدّ ذاته مسخ لإنسانية كنفاني، فالحياة لا تُعاش على نموذج مثالي سابق وقارّ. فإذا كان من حقّ الجميع أن يعبّر عن موقفه السياسي، فهذا لا يعني أن الموقف السياسي هو موقف ثقافي.
لذلك، يجب نقد القائد السياسي في الحقل السياسي، من دون الخلط والتوحيد بين الحقلَين السياسي والثقافي.
اليوم، في زمن التفاهة الذي تحوّل نظاماً محكماً يشمل العالم، حسب توصيف الكندي، آلان دونو، يتجلّى هذا النظام في العالم العربي بطريقة أكثر سوءاً من باقي العالم.
وما يزيد الطين بلِّة، تراجع دور المثقّفين لمصلحة المعلّقين الصاخبين في الفضائيات وصنّاع المحتوى في مواقع التواصل الاجتماعي، بوصفهم الأكثر تأثيراً في الجمهور.
كما باتت السلطات الحاكمة تفضّل العلاقة مع هؤلاء على حساب المثقّفين، الذين تراجع دورهم حتى تحولوا أبواقاً للسلطة أو للمموّلين.
كما خسر المثقّفون في العالم العربي الاستقلال النسبي الذي مُنح للمثقّفين في عقود الستينيّات والسبعينيّات والثمانينيّات، وهي الفترة التي كان للثقافة والصحافة التقليدية فيها الدور الأساس. مع الفضائيات في التسعينيّات،
وبعدها الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت التبعية مباشرة، فلا وجود للمثقّف إذا لم يوجد في الفضائيات، أو في السوشيال ميديا.
مع الفضائيات والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح المثقّف بحاجة إلى السلطة وأدواتها أكثر ممّا هي بحاجة إليه
مع هذه المتغيّرات أصبح المثقّف بحاجة إلى السلطة وأدواتها أكثر ممّا هي بحاجة إليه، وباتت السلطة هي صانعه المثقّف، وباتت وسائل الإعلام تصفعنا كلّ يوم بمعلّقين أمّيين، تكرّرهم في شاشتها لدرجة القرف، وتعتقد أنها تصنع منهم نجوماً، بالرغم من ضحالتهم الهائلة،
وهذه النماذج باتت مطلوبة أكثر من أي شيء آخر، لأنها الأكثر إطاعة للأوامر.
وهو ما جعل إملاءات السلطة على المثقّفين الموالين مباشِرة وفجّة، فتقلّص الهامش الذي لعب فيه المثقّف بين هذه السلطات للحفاظ على هامش من الاستقلال حتى الانعدام، وأصبح مثقّف السلطة بوقاً يدافع عنها بفجاجة وتفاهة صانعي المحتوى، وكنس كلّ مثقّف حقيقي إلى الهامش البعيد. إنه زمن التفاهة، زمن ما بعد الثقافة.
سمير الزبن
كاتب وروائي فلسطيني