Logo

اليمن بين لعنة الجهل وخطيئة السُلالة !

 في زمن مضطرب، خرج من صعدة رجل اسمه حسين بدر الدين الحوثي، وُلد عام 1959 في جبال مرّان، ليكون لاحقًا البذرة الأولى لواحدة من أكثر الجماعات جدلًا في تاريخ اليمن الحديث.

 لم يكن خروجه إلى العلن نتيجة اجتهاد سياسي عقلاني، بل كان انعكاسًا لعقود من التهميش الديني والسياسي، تضافرت مع إحساس دفين بالاستحقاق السلالي الذي تغذّى من الفكر الزيدي، وتحوّر لاحقًا ليولد نسخة متشددة من السعي للسيادة العرقية تحت عباءة “الحق الإلهي”.

لكن الحوثي، في جوهره، لم يكن إلا نتاجًا طبيعيًا لبيئة موبوءة بالجهل، تركت الباب مفتوحًا أمام كل من يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة. وحين تسقط الدولة، ينمو البديل في شكل جماعة، وحين يغيب العقل، يحضر السلاح.

اليمن اليوم يدفع ثمن سلسلة طويلة من الأخطاء المتراكمة، بدأت بالتعليم الذي لم يُبْنَ، والوعي الذي لم يُنشر، والتاريخ الذي لم يُصحح. فمنذ بداية الجمهورية، ظلّت الطبقات السياسية تحارب من أجل الكراسي، وتترك الشعب غارقًا في الظلمات. وفي هذا الظلام، وُلد الحوثي.

ليست المشكلة في الحوثيين فقط، بل في التربة التي أنبتتهم. تربة مشبعة بالفقر، بالجهل، وبالفراغ. وكل من يريد أن يقفز إلى السلطة على ظهر الطائفة أو القبيلة أو السلالة سيجد جمهورًا بلا مناعة فكرية، جاهزًا للتصفيق، ولو تحت وابل الرصاص.

لقد استطاع الحوثي، بذكاء من يعرف نقاط ضعف خصمه، أن يستثمر في خطاب المظلومية التاريخية، لكنه لم يكن ينشد عدالة شاملة، بل عدالة منحازة، تُفضي إلى إعادة تموضع طبقي جديد تحت عباءة "آل البيت". 

لم تكن الثورة التي قادها حسين بدر الدين الحوثي عام 2004 سوى حُلمٍ بثأرٍ قديم، ثأر من الجمهورية، من الحداثة، من الدولة التي تسلب السلالة وهْم تفوقها المقدس.

وهنا تكمن الخطيئة الجوهرية: أن يتم تسييس النسب، وأن يُمنح السيف لمن يرى نفسه ظلّ الله في الأرض، وأن يُجرّ شعب بأكمله إلى أتون حرب، فقط لأن حفيدًا من "آل البيت" لم يُعطَ ما يظن أنه إرثه الشرعي.

لكن الحقيقة أن الحروب لا تنشأ من الحقد وحده، بل من الغفلة أيضًا. غفلة الدولة التي تجاهلت صعدة لعقود، وتركتها حقلًا خصبًا لزرع الكراهية، ثم تفاجأت حين حصدت تمرّدًا. وغفلة المجتمع الذي لم يحمِ نفسه بسلاح الوعي، فاستسلم لتاريخ مصنوع من الأساطير.

اليمن، اليوم، ليس فقط ساحة حرب، بل ساحة صراع وجودي بين فكرين:

فكر يرى الإنسان ككائن حر، تُصنع له دولة حديثة تقوم على المواطنة،

وفكر يرى البشر درجات: سيّد ومسود، طاهر ودون، دمٌ له قيمة ودمٌ مُباح.

في مناطق الحوثي، لا شيء اسمه "مواطن". هناك مصطلحات جديدة: أنصار الله، القناديل، الزنابيل، المجاهدون، الهاشميون، خدام الولاية. لا مكان للحياد. إما أن تكون معهم، أو يتم انتزاعك من بيتك، من عملك، من الحياة.

لقد أعاد الحوثيون تشكيل المجتمع بالقوة، لا ليبنوه، بل ليعيدوه إلى نموذج قروسطي، تتحكم فيه السلالة بالأرزاق والعقيدة والسلاح. واليمن، في جوهره، ليس وطنًا طائفيًا. هو نسيج من مذاهب وقبائل وتاريخ جمهوري جريح، ولكن حيّ.

ورغم ظلام هذا المشهد، فإن الخلاص ليس مستحيلًا. فكما أن الحوثي استغل الجهل، فإننا نستطيع أن نُجهِض مشروعه بالعلم، وبنشر الحقيقة، وببناء جيل يرفض الاستسلام لفكرة الحق الإلهي.

الرهان على البندقية وحدها خاسر، ما لم ترافقه حرب في العقول. حرب على التجهيل، على التقديس الأعمى، على فكرة أن أحدًا وُلد ليستحق أكثر من غيره.

بقلم: أ.  عبدالله الشرعبي