Logo

نهاية معركة وإدامة حرب

 بدأت مرحلة جديدة. انتهت المعركة، لكن ثمّة حرب طويلة وممتدّة ما زالت مستعرة، وما زالت سماؤها ملبّدة بالغيوم، سواء في فلسطين، أو في لبنان وسورية واليمن، بل في إيران نفسها. 

وقد يمتدّ لهيبها ليشمل مناطقَ ودولاً أخرى، في ظلّ الغطرسة الصهيونية، والتواطؤ الأميركي والغربي الذي يمنح شرعية لأحلام بنيامين نتنياهو وهواجسه، ويعيد إليه دور الشرطي الممسك بعصاه الغليظة، يلّوح بها يميناً وشمالاً. 

اهتزّ وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل أم استقرّ، فإن معركة حالية استمرّت نحو 12 يوماً توقّفت ليعيد كلّ طرف حساباته، ويرتّب أوراقه، ويستخلص الدروس والعبر لمعركته المقبلة. 

وبعد أن سجّل الرئيس الأميركي دونالد ترامب هدف الفوز، باستخدامه طائرات B2 لضرب منشأة فوردو النووية، انتهت الحرب المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، 

وكان كاتب هذا المقال قد أشار في مقاله "إيران والمعركة الفاصلة" ("العربي الجديد"، 20/6/2025)، إلى أن ترامب، الشريك الكامل في هذه الحرب، سيكون أكثر حذراً، طالما ظلّت إيران صامدة، 

"أمّا إذا قدّر أن الحرب لن تستغرق سوى أيام معدودة"، فسيحرص على أن يكون الطرف القادر على ادّعاء حسمها ووقفها، من دون أن يتورّط في حربٍ طويلة المدى، معتمداً على عصاه الإسرائيلية في ترويض إيران والمنطقة، وفق سياسته القائمة على فرض الدبلوماسية بالقوة.
 
إذا استثنينا ترامب، الذي خرج من هذه الحرب منتشياً بادّعائه القضاء على التهديد النووي الإيراني، وبقدرته على استخدام القوة من دون توريط الولايات المتحدة في حربٍ تستنزفها وتهدّد مصالحها،

 الأمر الذي يشكّل سابقة خطيرة قد ترسم ملامح السياسة الأميركية في المرحلة المقبلة، يصعب تحديد المنتصر والمهزوم في هذه الحرب، 

علماً أن الحسم المطلق لأي من الطرفَين كان متعذّراً لسببَين: أولهما عدم وجود حدود برّية وخطوط تماس بينهما، تسمح لأحدهما بالتقدّم في أرض الخصم، 

فغني عن القول إن الطائرة والصاروخ تدمّر ولا تحتلّ، وثانيهما أن نتيجة الحرب مرهونة بنتائجها السياسية، وما عجزت عن تحقيقه الدبلوماسية بتجريد إيران من حقّها في تخصيب اليورانيوم، لم تنجح القوة الغاشمة في إنجازه. 

ثمّة دلائل على صمود إيران في حربها التي خاضتها ضمن ميزان قوى عسكري مختلّ لمصلحة إسرائيل، فعلى المستوى العملياتي، قد يميل ميزان القوى لمصلحة إيران على المدى المتوسّط، بحكم تفوقها في عدد السكّان، 

والمساحة الجغرافية، والممكنات الاقتصادية والبشرية والعلمية، إذا أحسنت الاستفادة من دروس المعركة ونتائجها. 

أمّا نقاط قوتها فتمثّلت أولاً في تعاملها مع هذه الحرب بوصفها معركة ضدّ الوطن الإيراني، ثمّ قدرة قيادتها العسكرية والسياسية على إعادة منظومة القيادة والسيطرة، 

بعد نجاح القوات الإسرائيلية في القضاء على الصفّ الأول من القيادات العسكرية الإيرانية في اللحظات الأولى من الحرب، وثبات موقفها برفض التفاوض تحت القصف، وقدرتها على إيلام العدو بضرباتها الصاروخية المستمرّة حتى اللحظات الأخيرة.

أما نقاط ضعفها، فتمثّلت في الاختراقات الأمنية الكبيرة التي تعرّضت لها، وما كان لها أن تتم لولا تعاون قوى من المعارضة، وتضافرها مع منظومات فساد قائمة، ثمّ وقوعها في فخّ التضليل الأميركي الإسرائيلي، الذي رافق المفاوضات والحرب وتوقيتها، 

وعدم قدرتها على بناء منظومات دفاع جوي تستطيع أن تواجه تطوّر سلاح الجو الإسرائيلي. 

وعلى الرغم من التطوّر العلمي الذي اتّسمت به القدرات الصاروخية الإيرانية (شكّلت مفاجأة في هذا الحرب)، فإن مخزونها لم يكن كافياً لتغطية متطلّبات حرب طويلة، إذ استُنفد جزء منه في ضرباتها، وفُقد جزء آخر في القصف الإسرائيلي المتواصل. 

وانعكس ذلك بوضوح في تقنين عدد الصواريخ في الرشقات الصاروخية، الأمر الذي مكّن منظومات الدفاع الإسرائيلية وحلفاءها من اعتراض ما تزيد نسبته عن 90% من إجمالي المقذوفات، 

وكان من الممكن تجاوز ذلك لو توفر لها العدد الكافي من الصواريخ والمسيّرات الكفيلة بإغراق منظومات الدفاع الجوي المعادية واستنزافها. 

في المقابل، تمثّلت نقطة قوة جيش الاحتلال في سلاح الجو، الذي تمكّن من السيطرة على سماء إيران، ولم تنجح الدفاعات الإيرانية في إسقاط أي طائرة حربية، على الرغم من ادّعاءات وسائل الإعلام إسقاط بعضها وأسر طيّارين. 

وكذلك في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية التي نجحت خلال السنوات الماضية في بناء شبكات واسعة داخل البلاد، مكّنت إسرائيل من توجيه ضربات قاسية في اللحظات الأولى للحرب. 

كما نجحت إسرائيل (بالتعاون مع الولايات المتحدة) في تنفيذ عملية خداع وتضليل واسعة قبل الحرب، وتمكّنت من حشد تأييد غربي لعمليتها، ومنحها الشرعية، بعد بثّ هواجس نتنياهو ومخاوفه وادعائه بوجود تهديدات على إسرائيل، 

واعتبار ما وصفه بالتهديد النووي الإيراني خطراً على البشرية، وهذا الأمر إن طاول إيران اليوم فإنه سيطاول غيرها غداً، ولن تكون له ضوابط أو حدود.

نجح نتنياهو أيضاً (من جديد) في توحيد المجتمع الإسرائيلي خلف المعركة، وتجاوز الأزمات الداخلية، وإنْ إلى حين، ويمثّل هذا استمراراً لسياسته القاضية بإدامة الحرب حتى موعد الانتخابات المقبلة، كي يخوضها بادّعاء تحقيق النصر الكامل. 

أمّا أبرز نقاط الضعف الإسرائيلية، فتكمن في جبهتها الداخلية، وعدم قدرتها على تحمّل حرب استنزاف حقيقية طويلة الأمد، بالزخم الذي شهدته في الأيام الماضية. 

وفي هذه الحرب أيضاً تبيّن عدم جاهزية منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي، على الرغم من الدعم الذي تلقّته من حلفائها، وكذلك النقص الكبير الذي يمكن أن تواجهه في مخزونها في حال خوضها حرباً طويلة.
 
توقّفت المعركة، لكن من دون اتفاق على نتائجها السياسية، ومن دون رسم آفاق متّفق عليها لمستقبل وقف إطلاق النار. وتتوضح حقيقة الخلل في اتفاق وقف النار هذا،

 وفي موازين القوى التي حكمته، أنه لم يُقرَن باتفاق لوقف إطلاق النار في غزّة، أو تثبيتٍ لوقف إطلاق النار في لبنان أو سورية أو اليمن، 

فعزَل الحرب الإيرانية الإسرائيلية عن قضايا المنطقة، وحدّدها بالسلاح النووي الإيراني، وصواريخ إيران الباليستية. إيران أعلنت أنها ستستمرّ في بناء برنامجها النووي "السلمي"، 

ولن تقبل بعد المعركة بما رفضته قبلها، ومن المتوقّع أن تعيد بناء منظومات دفاعها الجوي، وتراكم قدراتها الصاروخية، وقد تلجأ في ذلك إلى توسيع تحالفاتها وتعاونها العسكري مع روسيا والصين، خصوصاً في مجال سلاح الجو، 

بعد أن أثبتت الصين تفوّق طائراتها في المعركة الباكستانية الهندية أخيراً، وكذلك بناء منظومة الدفاع الجوي عبر منظومات أس 400 الروسية المتفوقة.

 أمّا إسرائيل فأعلنت أنها لن تسمح لإيران باستعادة قوتها الصاروخية، أو ببناء منظوماتٍ للدفاع الجوي، أو بترميم قدراتها النووية، وهدّدت باستهداف أي مسعى في هذا الاتجاه. 

ولعلّ هذا ينقل الوضع من نهاية معركة إلى بداية حرب مستدامة، في نموذج يشبه ما يحدث في لبنان من ضربات إسرائيلية، 

مع فارق وحيد أن إيران إذا تجاوزت ذلك مرّة، فإنها لا تستطيع الاستمرار في البقاء مكتوفة اليدين في معركة مفتوحة على العقوبات والضغط العسكري والتنسيق الإسرائيلي الأميركي، تمنعها من إعادة بناء قدراتها،

 لذا من المرجح أن نشهد في الأيام والشهور القادمة شراراً قد يشعل سهلاً.

معين الطاهر
كاتب وباحث فلسطيني