استضافة حوار أمريكي روسي.. السعودية تعزز دورها في الاستقرار العالمي
تؤكد المملكة العربية السعودية يوماً بعد آخر مكانتها كدولة محورية قادرة على تهيئة فرص التفاهم والحوار بين القوى الكبرى، مستندة إلى سياسة خارجية متوازنة وعلاقات دولية متنوعة،
وفي ظل التوترات الجيوسياسية يبرز دور الرياض كعنصر توازن يسعى لتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
ويعكس استعداد الرياض لفتح أبوابها لحوار مباشر بين روسيا والولايات المتحدة استمرار نهجها في تقديم أرضية مشتركة لحل الخلافات وتقريب وجهات النظر، انسجاماً مع رؤية المملكة للعب دور بنّاء في النظام الدولي.
جهود الوساطة
ضمن هذا الإطار، جاء تأكيد وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي، بندر الخريف، على استعداد المملكة لاستضافة المشاورات بين موسكو وواشنطن، بما يخدم الاستقرار السياسي والاقتصادي عالمياً.
وفي مقابلة مع وكالة "تاس" الروسية، في 12 يوليو الجاري، شدد الخريف على أن القيادة السعودية، بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تبذل كل جهد ممكن لضمان استقرار المنطقة وخدمة مصالح الأمن الدولي.
وجاء هذا التصريح خلال زيارة رسمية إلى روسيا، حيث ترأس الخريف وفداً رفيع المستوى لتعزيز التعاون الثنائي في قطاعي الصناعة والتعدين، وشارك في المعرض الصناعي الدولي "إينوبروم" بمدينة يكاترينبورغ،
حيث كانت السعودية هذا العام شريكاً رئيسياً، ما يؤكد متانة الشراكة الاستراتيجية مع روسيا.
كما ينسجم هذا التوجه مع استضافة العاصمة الرياض، في فبراير الماضي، لجولة محادثات مباشرة بين روسيا والولايات المتحدة، في خطوة عززت الثقة الدولية بالدور السعودي كوسيط موثوق يعمل على ترسيخ الحوار وضمان استمرارية التواصل بين القوى الكبرى.
بدروه، شدد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في حديث خاص لقناة "العربية"، على أهمية منصة الرياض في تطبيع العلاقات بين موسكو وواشنطن، واصفاً إياها بـ"الدور المهم"، ومشيداً في الوقت نفسه بجهود المملكة تجاه الأزمة الأوكرانية.
وخلال مؤتمر صحافي عقده مع نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان، في 4 يوليو 2025، بالعاصمة موسكو، أكد لافروف أن بلاده تتفق مع السعودية على أن الدبلوماسية تظل السبيل الوحيد لحل الأزمات وتعزيز الاستقرار في العالم.
وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد أعرب خلال تصريحات للصحفيين، في 19 فبراير 2025، عن شكره الجزيل للقيادة السعودية، ليس فقط على توفير مكان الرياض لعقد اجتماع رفيع المستوى بين روسيا والولايات المتحدة، ولكن أيضاً على "خلق أجواء ودية للغاية".
دلالات عميقة
ويرى الباحث الروسي، ديميتري بريجع، أن اختيار الرياض منصة للحوار بين واشنطن وموسكو يتجاوز كونه مجرد رمز، ليحمل دلالات استراتيجية عميقة تعكس الدور السعودي المتنامي، وقوة توازن المملكة في النظام الدولي الجديد.
ويضيف ، أن هذا التقدير العالمي للسعودية ينبع من قدرتها على المحافظة على علاقات متوازنة مع الأطراف المتصارعة، وتبني خطاب يمنحها شرعية سياسية وأخلاقية تؤهلها للعب أدوار وساطة فعالة في الأزمات الدولية.
وأشار بريجع إلى أن دور المملكة في تعزيز الاستقرار العالمي أصبح ملموساً من خلال تحركاتها النشطة في ملفات شائكة، سواء في أوكرانيا أو السودان، أو حتى في المحيط الإقليمي وملف قطاع غزة.
كما أوضح أن "هذا التوازن بين الحياد النشط والانخراط الذكي يفتح أمام السعودية آفاقاً جديدة لتعزيز موقعها كقوة دولية في منطقة الخليج والمنطقة العربية، من خارج النادي الغربي التقليدي ودون أن تكون في المعسكر المقابل".
ويؤكد أن هذا الدور "سيمنح الرياض مكانة متقدمة ضمن الدول القائدة لمسار التفاوض الدولي، وقد تتحول الرياض في المستقبل القريب من منصة مؤقتة للحوار إلى مركز دائم لصناعة التسويات".
يعتقد الباحث الروسي أن حدوث تعديلات وإصلاحات في الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية "أمر إجباري ومهم، لكي يكون للدول الأفريقية والعربية والخليجية صوت مسموع وملموس يغير ملامح السياسة الدولية والنظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب".
وفيما يخص الاستفادة من هذا الدور على المدى الطويل، يبين بريجع أن السعودية قادرة على توظيف هذه المكانة لتعزيز شراكاتها الاقتصادية والسياسية، وجلب الاستثمارات، وتوقيع اتفاقيات أمنية وسياسية مع قوى كبرى، وتثبيت دورها كمصدر استقرار في الشرق الأوسط والخليج والعالم العربي.
ويلفت إلى أن الرياض اليوم "لا تتوسط فحسب، بل تعيد تعريف مفاهيم القوة الناعمة والدبلوماسية النشطة في بيئة دولية مضطربة، وهذا ما سيجعل منها خلال السنوات القادمة لاعباً لا غنى عنه في المعادلات الدولية الكبرى".
وشدد على أنه "يجب أن يكون للسعودية أدوار في التوسط الدبلوماسي وأن يكون هناك مركز أو مؤسسة دولية فعالة في المملكة تتوسط في حل النزاعات، لا تكتفي بتقديم التقارير والبيانات، بل تتحول إلى أفعال ملموسة".
حوارات متواصلة
يأتي الموقف السعودي الداعم للحوار في وقت تؤكد فيه موسكو هي الأخرى أهمية إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع واشنطن، رغم الضغوط المتبادلة ومحاولات التصعيد.
وتُبرز التصريحات الروسية الأخيرة إصرار القيادة الروسية على التمسك بخيار الحوار كطريق لتقليل التوترات وتحقيق التوازن في العلاقات الدولية.
وفي هذا السياق، صرّح الممثل الخاص للرئيس الروسي ورئيس الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة، كيريل دميترييف، بأن الحوار البناء بين روسيا والولايات المتحدة أقوى من محاولات الضغط التي لا جدوى منها،
مؤكداً أن هذا الحوار سيستمر رغم كل محاولات عرقلته.
ونقلت قناة "روسيا اليوم" عن دميترييف، في 14 يوليو الجاري، أن ما وصفها بـ"أكاذيب" الإدارة الأمريكية السابقة يجب تصحيحها، وأن على الجانب الأمريكي أن يدرك المصالح المشروعة لموسكو.
وشدد المسؤول الروسي على أن "الحوار الندي والاحترام المتبادل والتعاون الاقتصادي" تشكل الأساس الحقيقي لضمان الأمن العالمي وتحقيق سلام مستدام.
وجاءت تصريحات دميترييف عقب لقائه ممثلين عن غرفة التجارة الأمريكية خلال منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، حيث ناقش الجانبان فرص زيادة الاستثمارات وإطلاق مشاريع مشتركة، مع اتفاقهم على مواصلة الحوار الثنائي.
من جهتها أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أن موسكو وواشنطن عقدتا جولتين من المشاورات حول أسباب التوتر، مشيرة إلى أن الجولة الثالثة تأجلت بطلب أمريكي، لكنها شددت على أن باب الحوار لا يزال مفتوحاً.
وتجدر الإشارة إلى أن بوتين أجرى، في 3 يوليو الجاري، محادثة هاتفية مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب، استمرت قرابة الساعة، حيث أكد استعداد موسكو لمواصلة المفاوضات.
يأتي هذا الحراك تأكيداً على أن جهود الرياض ساهمت بشكل فاعل في تقريب المواقف المتباعدة، عبر دبلوماسية نشطة تقوم على بناء الثقة وتعزيز فرص الحوار بين القوى الكبرى.
وبينما يواجه العالم تحديات سياسية واقتصادية معقدة، تواصل المملكة تقديم نفسها كجسر للتفاهم، في إطار رؤية تنطلق من مسؤوليتها تجاه أمن واستقرار المنطقة والعالم.