Logo

حين ترحل الجنازات دون ذويها!

 إلى سنواتٍ ليست ببعيدة، كان (اليمن الكبير) كما وصفه الهمداني، وإن كانت دلالاته أوسع من الجغرافيا السياسية، كانت تمثّل الصورة الأكثر وضوحًا لليمن ما بعد الثورة، ثم ما بعد الوحدة. 

اقتربت المسافات، وتم تعبيد الطرق الوعرة، فأصبح الوصول ممكنًا بعد أن كان مستحيلًا.

بدت الحياة، رغم صعوبات المعيشة، مقبولة في عيون الناس، بل ومرضية في كثير من تفاصيلها.

ثم تغيّر كل شيء، وكأنّ انفجارًا مفزعًا اجتاح الخريطة.

تشظّت البلاد إلى دويلات، وتحوّل الوطن الواحد إلى كانتونات يتنازعها السلاح والمصالح. 

رصاصة واحدة فتحت الباب لترسانة لا تنتهي من الرصاص، ومليشيات لا تعرف غير الفوضى سبيلًا، اجتهدت في تقويض كل ما هو يمني.

من قال "لا" للمليشيا، اعتُقل. بوابة جحيمٍ فُتحت ولم تُغلق حتى الآن.

وسط حملات الاعتقال والمداهمات والسجون، نجا من استطاع الخروج؛ أولئك الذين غادروا منازلهم في جنح الليل، وهم يترقّبون فوهات البنادق التي كادت تطاولهم أمام أعين أسرهم.

ورغم هذه النجاة المؤقتة، لم يكن اليمني في مأمن؛ فسواء بقي داخل الوطن أو عبر حدوده، كان في مواجهة معاناة لا تقلّ قسوة. 

عادت المسافات لتصبح أبعد، وصار الوصول إلى اليمن شاقًا، بل وخطرًا، كما لو أن البلاد أصبحت غريبة حتى على أبنائها.

أصبحت الطريق الواحدة شبكةً من الطرق، ولم تعد الوعورة مجرّد تضاريس طبيعية، بل صارت ملغّمة بكل ما هو مميت. كونك يمنيًا، عليك أن تشقّ طريقًا جديدة في كل مرة، لعلّها تكون أكثر أمانًا.

 تبحث عن منفذ لم تطاوله يد مليشيا الحوثي، فقط لتصل إلى مدينتك أو منزلك.

كل ذلك من أجل لحظة لقاءٍ مؤجّل، واجتماع عائلي تمنّيته منذ سنوات الفراق القسري.
 
وإن كنت مقتدرًا ماليًّا، فقد تجد نقطة لقاء تجمعك بأهلك، وستعبر رغم ذلك مئات الكيلومترات الشاقة والمنهكة. قد تلتقي بعد غياب، لكنك تدرك أن اللقاء لن يكون في اليمن.
 
اختبر اليمني كثيرًا من المآسي، لكن أقساها أن يصل إليهه نبأُ وفاة والده أو والدته، بعد أن فرّقته عنهم المليشيا قسرًا ومزّقت شمل العائلة. 

لن يُتاح له وداعُ أحبّته، ولا حضورُ جنائزهم. أصدقاء وأقارب ومعارف كُثُر، 

انتهت سنوات الإبعاد لا بلقاء، بل بموتٍ صامت، هو الحاضر الأقوى في هذه البلاد، يذكّر الغائبين بأنهم لن يلتقوا بأهلهم، ولن يُرافقوهم في رحلتهم الأخيرة؛ ذلك الحق الإنساني البسيط الذي حُرموا منه.

قبل أيام، توفّي جدّي لأبي. عشنا ما عاشه الكثير من اليمنيين. لم يستطع والدي رؤيته منذ أكثر من خمس سنوات؛ كانت مليشيا الحوثي الحاجزَ والمانع، جعلت المسافة شاسعة، والذهاب مجازفة بالحياة، كأنك ستعبر بلادًا أخرى لم تكن يومًا بلادك.

في كل بيت قصةُ فقدٍ وبكاءٍ طويل، لا تمسحه الأيام. جنازة وحيدة لأبٍ لم يرَ ابنه منذ سنين، وأمٌ أصبحت تكلفة لقائها بابنها أثقل من قدرتها.

الحزن ثقيل، والسخط عميق، والنقمة تتصاعد على جماعة حوّلت اليمن إلى مأتم مفتوح وجنازة بلا نهاية.
 
إجلال البيل
كاتبة يمنية.