في اليوم العالمي للشباب … جيل يكتب فجر اليمن بعقول السيادة لا بدماء الحروب
في كل أرجاء العالم، يُخصص هذا اليوم للشباب، فتُطرَّز المنابر بالوعود، وتُغدق العبارات البراقة، وتُلوَّن المشاريع بخطابات التمكين .
لكن في اليمن، يحلّ اليوم العالمي للشباب على جيلٍ مثخن بجراح الحرب، مُحاصر بخيبات السياسة، وأسير منظومة فاسدة اعتادت أن تحكم لتنهب، وتتكلم لتكذب، وتتنافس لا لبناء الوطن بل لتقاسم غنيمته .
هنا، لا تكفي التهاني ولا تُجدي الخطب الجاهزة، لأن اللحظة التي نعيشها أكبر من الاحتفال وأشدّ من الصمت .
نحن أمام مفترق طرق تاريخي، حيث لم يعد الوطن يملك ترف الانتظار، ولا الشباب يملكون رفاهية المجاملة .
إن اللحظة الراهنة ليست محطة عابرة في تاريخ اليمن، بل امتحان وجودي يُقاس فيه معدن الأجيال .
لقد بلغ السيل الزبى، ولم يعد أمام شباب اليمن خيار سوى انتزاع زمام المبادرة بقبضة العقول قبل السواعد، وقطع الحبل السرّي الذي يربط البلاد بنخبٍ هرِمة أكلت من رصيد الوطن حتى آخر فتات، وأورثته الفشل والتشظي، والانقسام الممنهج، والتعبئة العمياء، والارتهان المقيت لإملاءات الخارج .
هذه ليست مغامرة سياسية، بل فرض عين وطني يتصل بمصير الأرض والإنسان، وبحق الأجيال القادمة في وطنٍ حرّ لا يُدار من غرف مغلقة أو عواصم بعيدة .
لقد بلغ زمن التغيير مبلغه، وحانت ساعة ضخ دماء جديدة في شرايين الحياة السياسية اليمنية؛ دماء نقية لم تتلوث بصفقات المساومة ولا بميراث الفساد .
ليس المطلوب وجوهًا مُعاد تدويرها، ولا شعارات فقدت بريقها، بل عقولًا شابة تُدرك أن المصالحة الوطنية ليست تنازلاً عن الحق، بل استعادة لجوهره، وأن السلام الحق لا يُنسج من خيوط الخوف والجبن، بل من جرأة المخلصين وإرادتهم الصلبة .
إن المشروع الذي ننشده هو مشروع دولة القانون، حيث التعددية ليست يافطة انتخابية مؤقتة، بل ثقافة راسخة في مؤسسات الحكم، وحيث الشفافية والديمقراطية ليستا زينة للواجهة السياسية، بل صمامات أمان تحفظ الأمة من عبث السلطة وتغوّل الفساد .
إن الدولة المدنية التي يتطلع إليها اليمنيون ليست هبة تُمنح من أطراف الصراع، ولا بضاعة تُستورد من موائد العواصم، بل ثمرة إرادة وطنية صلبة تولد من قلب الأرض اليمنية، وتُروى بعرق أبنائها المؤمنين بأن السيادة لا تُشترى ولا تُستعير .
إنها دولة يصوغها شعبٌ يرفض الارتهان لأي قوة خارجية، ويصرّ على استقلال قراره الوطني كحق غير قابل للتفاوض، ويحرس أرضه من أن تتحول إلى ورقة مقايضة في صفقات الإقليم والعالم .
دولة تُشيَّد حجارتها على وعي وطني جامع، وتُصان أسسها من عبث المزايدات ومقامرات المتربصين، لتبقى اليمن ملكًا لأبنائها لا مزرعةً لورثة الخراب .
لقد حان الوقت ليتوقف الشباب عن أن يكونوا شهودًا على الخراب، وأن يصبحوا صناع التغيير الحقيقي .
لم يعد مقبولًا أن تُعاد تدوير النخب القديمة التي نهشت الوطن، وأوصلته إلى حافة الانهيار، ولم يعد الصمت خيارًا .
على كل شاب وشابة أن يرفعوا لواء الوعي والمبادرة، وأن يتحركوا بجرأة لتفكيك منظومة الفساد التي شوهت السياسة وأفرغت الدولة من جوهرها .
الواجب الوطني اليوم يتجاوز الخطابات والنوايا الحسنة . إنه اختيار بين الانقسام أو الوحدة، بين الارتهان أو السيادة، بين الخراب أو البناء .
إن من يملك الشجاعة ليقف ضد المحاصصات الضيقة، ويقود مشروع المصالحة الوطنية، ويعيد بناء الدولة على أسس القانون والشفافية، هو من سيكتب التاريخ باسم الأجيال القادمة، وليس من بقي جالسًا خلف أبواب مغلقة ينتظر أن يُمنح التغيير .
الشباب اليمني هم أمل الأمة وحارس سيادتها . عليهم أن يتحركوا كقوة ضاغطة لإقرار التعددية السياسية الحقيقية، وضمان استقلال القرار الوطني، وصيانة الأرض من كل اعتداء أو ابتزاز .
إن المشاركة الفاعلة ليست خيارًا بل التزام وطني وأخلاقي، ومسار وحيد لإخراج البلاد من نفق الفشل والتمزق .
كل يوم يمر دون تحرك، هو يوم يذهب فيه الوطن خطوة أخرى نحو الضياع .
هذا هو الوقت، وهذه هي اللحظة، لتكون الأجيال الجديدة جسر الانتقال من الخراب إلى البناء، من الصمت إلى المبادرة، ومن الانقسام إلى الوحدة .
فليكن لكل شاب وشابة دور مباشر في إعادة رسم مستقبل اليمن، بحيث يصبح الوطن مستودع الحرية والقانون، لا ملعب المصالح الفاسدة أو أدوات النفوذ الخارجي .
التسلح بالعلم …
والنضال من أجل الحرية والعدالة
إن معركة الشباب اليمني ليست فقط معركة ضد الفساد والاستبداد، بل هي معركة وعي قبل أن تكون مواجهة سياسية .
فالجيل الذي يفتقر إلى العلم والمعرفة، يظل أسيرًا للشعارات الجوفاء، وعرضةً للتضليل، وفريسةً سهلة لأدوات الصراع التي تتغذى على الجهل والتطرف .
ولهذا، فإن التسلح بالعلم هو خط الدفاع الأول عن حرية الإنسان وكرامته، وهو السلاح الذي لا تنفد ذخيرته، ولا يصدأ مع الزمن .
إن النضال الحقيقي من أجل الحرية والعدالة والمساواة لا يكتمل إلا إذا ارتكز على قاعدة راسخة من الديمقراطية التي تحمي الحقوق، والتنمية التي تفتح أبواب الفرص .
فلا قيمة لحرية الجائع، ولا جدوى من عدالة بلا مؤسسات، ولا معنى لمساواة لا تدعمها بيئة اقتصادية واجتماعية عادلة .
على الشباب أن يدركوا أن النضال السلمي والفكري هو أعمق أشكال المقاومة، وأن تحرير العقول من قيود الجهل، وبناء الوعي النقدي، هما الشرطان الأساسيان لأي مشروع وطني حقيقي .
فالتغيير الذي لا يُبنى على العلم سينهار أمام أول اختبار، والديمقراطية التي لا يحرسها وعي شعبي راسخ ستتحول إلى واجهة شكلية بلا مضمون .
إن الطريق نحو اليمن الجديد يمر عبر قاعات الدراسة، ومراكز البحث، ولغة العقل، ومنصات الحوار، بقدر ما يمر عبر الوثبة في ميادين النضال السلمي .
فمن أراد بناء دولة القانون، عليه أولًا أن يبني إنسانًا يعرف حقوقه ويدرك واجباته، ومن أراد تنمية مستدامة، فعليه أن يزرع في الأجيال ثقافة العمل والإبداع، والابتكار، لا ثقافة الاتكالية والانتظار .
التسامح وفن التفاوض …
مفاتيح الخروج من النفق المظلم
في قلب العواصف السياسية والحروب المستمرة، يظل التسامح أحد أعظم أسلحة الشعوب التي تسعى للبقاء والنهوض .
فالتسامح ليس ضعفًا ولا تنازلًا عن الحق، بل هو ذكاء استراتيجي يُطفئ نار الأحقاد، ويعيد ترتيب الأولويات على قاعدة المصلحة الوطنية العليا .
إنه حجر الزاوية في أي مصالحة حقيقية، تُخرج اليمن من أسر الصراع العبثي إلى فضاء العمل المشترك .
غير أن التسامح وحده لا يكفي ما لم يُقترن بـ براعة وفن التفاوض، ذلك الفن الذي يحوّل المواقف المتناقضة إلى نقاط التقاء، ويستبدل منطق الغلبة بمنطق الشراكة، ويبحث عن عدالة انتقالية وحلول عادلة ومرضية لكل الأطراف، لا لتقاسم الغنائم، بل لضمان مستقبل آمن ومستدام لوطن حر ومستقل .
إن التفاوض الفعّال يحتاج إلى عقول تعرف كيف تحاور بلا انكسار، وتناور بلا خيانة، وتنتزع المكاسب الوطنية من أفواه الأزمات.
لقد وضعت النخبة الفاسدة اليمن في مستنقع خطير، حيث تتقاطع مشاريع التقسيم مع نذر الفوضى، ويتربص الشتات بمصير الدولة، ويتحول الخلاف السياسي إلى قطيعة مجتمعية .
الخروج من هذا النفق المظلم لن يكون عبر مزيد من العناد أو الإقصاء، بل عبر إرادة شبابية تؤمن أن الحلول الدائمة لا تولد من ركام المعارك، بل من طاولة حوار وطني شجاع، يضع كل القضايا على بساط النقاش، ويُعيد صياغة العقد الاجتماعي بما يضمن وحدة الأرض وكرامة المواطن .
ليكن شباب اليمن اليوم قادة التغيير لا مجرد متفرجين، ولتكن مبادرتهم ضوءًا يبدد ظلال الفشل، وشعارهم أن المستقبل يصنعه العقل، لا الدمار ؛ والوطن يُستعاد بالسلمية والعمل، لا بالانتظار .
الوثبة الشعبية …
طريق السلم إلى الدولة المدنية
إن الأوطان لا تُستعاد بالمناشدات وحدها، ولا تتحرر إرادتها بانتظار مبادرات الخارج، بل تُستعاد حين ينهض شعبها في وثبة سلمية واعية، تفرض على كل الأطراف السياسية أن تنصت لصوت الناس، لا لصوت البنادق. إن قوة الشارع، إذا تسلّحت بالوعي والتنظيم، قادرة على إعادة صياغة المعادلة، وفرض أجندة الشعب على طاولات المفاوضات .
هذه الوثبة ليست دعوة للفوضى، بل هي ضغط شعبي مشروع، يحاصر النخبة الفاسدة بخيارين لا ثالث لهما : إما الانخراط في مشروع الدولة المدنية العادلة التي تساوي بين أبنائها وتحتضنهم جميعًا، أو العزلة السياسية والاجتماعية التي تسقطهم من حسابات المستقبل .
على الشباب أن يتذكروا أن النصر في المعارك السلمية لا تقاس بعدد الاحتجاجات والمسيرات وحدها، بل بقدرة الحراك الشعبي على تحويل الغضب إلى مشروع، والمطالب المتفرقة إلى رؤية جامعة، والهتافات إلى عقد اجتماعي جديد يكتب على أرض اليمن لا في مكاتب الوصاية .
إن لحظة التغيير الحقيقية تبدأ حين يدرك جيل اليوم أن السلمية ليست ضعفًا، بل سلاحًا أخلاقيًا وسياسيًا، قادرًا على كسر دوائر الدم، وفتح أبواب السياسة على أفق وطني جامع، لا على صفقات مؤقتة تُعيد إنتاج الأزمة .
اليمن بين أيديكم …
فاصنعوه كما تحلمون
اليمن اليوم ليس حدودًا على خارطة أو اسمًا في سجل الدول، بل قضية وجود ومصير تنتظر شجاعة الأجيال الجديدة لتكتب فصولها القادمة .
إن الأمل يتجسد في العقول التي ترفض الانكسار، وفي القلوب التي تدرك أن الأوطان لا تُورّث للأقوى سلاحًا، بل للأكثر وعيًا وإخلاصًا وعملًا .
كل مبادرة شبابية واعية، كل كلمة حرة، كل يد تمتد للمصالحة الوطنية، هي لبنة في جدار دولة القانون والديمقراطية، ودرع يحمي الأرض والسيادة من كل عبث وابتزاز .
إن التغيير لا يولد من فراغ، بل من إرادة صلبة تُصر على أن يكون اليمن سيد نفسه، لا تابعًا في طوابير الارتهان .
فلتكن مبادرة الشباب اليوم مشعلًا يبدد عتمة الفشل، وصوتًا يعلو فوق ضجيج السلاح، وإرادة تصنع المستقبل بالعقل لا بالخراب، وبالعمل لا بالانتظار .
وليكن شعار هذا الجيل أن السيادة تُحرس بالوعي، وأن الوحدة تُبنى بالمواطنة المتساوية، وأن النهضة تُصنع بالعلم والعدالة، لا بالمساومات المؤقتة .
اليمن بين أيديكم …
فكونوا صانعيه، لا شهودًا على ضياعه .
مصطفى بن خالد