Logo

خريطة أممية حول ليبيا: بين أمل التوافق والعراقيل الميدانية

 قدّمت المبعوثة الأممية إلى ليبيا هانا تيتيه، أول من أمس الخميس، خريطة طريق جديدة للحل السياسي في ليبيا، وذلك بعد مسار طويل من المفاوضات والمحطات المتعددة، 

فيما بادر مجلس النواب وحكومتا ليبيا، حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وتلك المكلفة من قبل مجلس النواب برئاسة أسامة حماد، بالترحيب بخريطة الحل الأممية، 

وأعلنت البعثة وحكومة طرابلس، أول من أمس، أن مقر البعثة استهدف الخميس بصاروخ سقط بالقرب منه ولم يسفر عن خسائر بشرية.

وجاء إعلان تيتيه عن خريطة الحلّ في ليبيا خلال إحاطة قدمتها أمام مجلس الأمن، مساء الخميس، كنتيجة لمبادرتها التي أطلقتها منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، والتي شكّلت لها لجنة استشارية، ضمّت عشرين خبيراً قانونياً ليبياً، لوضع خيارات لحل القضايا الخلافية التي تعرقل إجراء الانتخابات. 

وأعلنت هذه اللجنة نتائج أعمالها في 20 مايو/أيار الماضي، متضمنة أربعة خيارات: إما إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ليبيا معاً بناء على تعديل للقوانين الانتخابية، 

أو إجراء الانتخابات البرلمانية فقط مع إقرار دستور دائم للبلاد، أو إقرار الدستور أولاً ثم إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، أو حلّ جميع المؤسسات السياسية القائمة واستبدالها بمجلس تأسيسي للإشراف على مرحلة انتقالية.
 
3 ركائز و4 خيارات للحلّ في ليبيا

وتركز خريطة تيتيه للحلّ في ليبيا على ثلاث ركائز أساسية: إعداد إطار انتخابي متماسك فنياً وسياسياً، وتشكيل حكومة موحدة جديدة، وإطلاق حوار واسع يشمل كافة القوى السياسية والمجتمع المدني ومختلف المكونات. 

وأوضحت المبعوثة الأممية أن تنفيذ الخريطة سيكون تدريجياً على مراحل، كل منها يمهد للمرحلة التالية خلال فترة تتراوح بين 12 و18 شهراً.

 وتبدأ المرحلة الأولى بإعادة تشكيل مجلس إدارة المفوضية العليا للانتخابات بسدّ شواغره مع ضمان استقلاله المالي والإداري، بالتوازي مع إدخال التعديلات الدستورية والقانونية اللازمة لمعالجة أسباب فشل انتخابات ديسمبر 2021.

وبعد الخطوتين، أوضحت تيتيه أنه سيتم الانتقال إلى التوافق على حكومة موحدة قادرة على تهيئة البيئة الأمنية والإدارية الملائمة للاقتراع، وإطلاق "حوار مُهيكل" يضم طيفاً واسعاً من الليبيين، ينتهي إلى توصيات تحديد مسار إصلاحات سياسية وأمنية واقتصادية عاجلة تُسهم في العملية الدستورية. 

وأكدت أن الخطة ستتضمن ضمانات للجوء إلى بدائل إذا حاولت بعض الأطراف تعطيل التقدم، مع طلب دعم مجلس الأمن لاتخاذ التدابير الضرورية لضمان عدم إعاقة المسار.
 
ومن بين الخيارات الأربعة، يبدو أن تيتيه اختارت الخيار الأول، الذي يقضي بإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية بالتزامن ضمن إطار انتخابي معدل من القوانين التي أعدها مجلسا النواب والدولة في عام 2023، 

مع إبقاء الخيار الرابع بديلاً، إذا فشل تنفيذ الخيار الأول، وهو ما أكدته نتائج استطلاع آراء الليبيين حول الخيارات الأربعة، التي أعلنتها البعثة يوم الأحد الماضي، إذ أيّد 42% الخيار الأول، مقابل 17% للخيار الثالث، و23% للخيار الرابع.
 
ورغم تعدد المبادرات الأممية، إلا أن أيّاً منها لم ينته إلى خريطة طريق، سوى مبادرة ملتقى الحوار السياسي في عام 2020، ومبادرة تيتيه الحالية.

 وجاءت خريطة الطريق عام 2020، بإشراف المبعوثة السابقة إلى ليبيا ستيفاني ويليامز، كنتيجة لمشاورات ملتقى الحوار السياسي التي شكلت السلطة التنفيذية الحالية، منهية سنوات من الانقسام السياسي. 

وتضمنت خريطة 2020 إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في موعد أقصاه ديسمبر 2021، وتوحيد السلطة التنفيذية، مع إقرار مسار دستوري وقانوني لإجراء الانتخابات، ومعالجة الملف الأمني بوقف إطلاق النار وتوحيد المؤسسة العسكرية.

فوارق بين خريطتين

ويتجلى العديد من الفوارق بين الخريطتين، خصوصاً في مسار الوصول إلى الانتخابات وبناء السلطة التنفيذية، فقد اعتمدت خريطة 2020 على إنشاء سلطة انتقالية جديدة بالكامل (مجلس رئاسي وحكومة وحدة وطنية) جرى اختيارها عبر الملتقى، 

مع تحديد موعد لوضع حدّ للمرحلة الانتقالية وهو 18 شهراً (انتهت المهلة حينها في يونيو/حزيران 2022)، ولجنة قانونية تصوغ القاعدة الدستورية خلال 60 يوماً.
 
أما الخريطة الحالية فهي لا تنطلق من تشكيل سلطة بديلة كأولوية، بل تبني مسار تشكيلها تدريجياً عبر العملية السياسية نفسها، بمعنى أنها تأتي في منتصف الطريق، مع ترك تفاصيل اختيارها للحوار المجتمعي وليس للنخبة السياسية في ملتقى سياسي. 

وفي ما يتعلق بالإطار الدستوري والقانوني، تنطلق الخريطة الحالية من تعديل للقوانين الانتخابية لمعالجة النقاط الخلافية السابقة. 

وبخلاصة أوضح للفارق الجوهري بين الخريطتين، أن الأولى كانت بصياغة "مغلقة" بزمن محدد بـ18 شهراً، بينما جاءت الثانية بطابع "هندسة مشروعة ومفتوحة" في غضون 12 إلى 18 شهراً، يجري خلالها تأهيل المفوضية ثم تشكيل حكومة، 

ثم باقي المسار وصولاً إلى الانتخابات.

ورحبت حكومتا ليبيا بإحاطة تيتيه. وقال الدبيبة، على "إكس"، مساء الخميس: "منذ البداية أكدتُ أن القوانين الانتخابية هي العائق الذي عطّل مسار الانتخابات منذ 2021.

 وكررتُ ذلك أكثر من مرة. واليوم جاءت إحاطة المبعوثة الخاصة أمام مجلس الأمن لتؤكد ما قلناه، وتجعل معالجة هذه النقطة أولوية أساسية للانطلاق ضمن خريطة الطريق التي أُعلنت ملامحها المبدئية اليوم وهو أمر نرحّب به وندعمه". 

واعتبر الدبيبة "أن أي خريطة طريق تدفع نحو الانتخابات وتوحيد جميع المؤسسات دون استثناء تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح". 

وتابع: "موقفنا ثابت: الذهاب المباشر إلى الانتخابات على أساس قوانين قابلة للتنفيذ باعتبارها الحل الوحيد لإنهاء الانقسام السياسي وتحقيق إرادة الليبيين". 

ومضى بقوله: "أما التوافق على إنهاء الأجسام الموازية وفق مرجعية الاتفاق السياسي وملاحقه فهو أمر مرحّب به ويدعم مسار التوحيد لكنه لا يجب أن يكون ذريعة لتأخير الانتخابات أو تعطيل إرادة الشعب".

بدوره، قال حماد في بيان إنه يرحب بخريطة المبعوثة الأممية "وفقاً لأحد العناصر الجوهرية الواردة بها والمتمثلة في ضرورة تشكيل سلطة تنفيذية جديدة موحدة لكامل التراب الليبي"، مجدداً "التزام حكومته بمطالب أبناء الشعب الليبي". 

ورحب رئيس مجلس النواب عقيلة صالح بالخريطة، معتبراً أنها "تُمثل خطوة أساسية نحو توحيد السلطة التنفيذية وتعزيز وحدة الصف الليبي"، مشيراً إلى أن العملية المرتقبة "ستشمل الإعداد لانتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة".

وفي قراءة أعمق، يرى أستاذ العلاقات الدولية والمهتم بالشأن السياسي، مصطفى الكوت، أن خريطة تيتيه تحمل جوانب قوة تجعلها قابلة للتنفيذ مقارنة بسابقتها،

 أبرزها الاستفادة من أسباب فشل خريطة 2020، كالخلافات حول القوانين الانتخابية وغياب التزامن بين الانتخابات، ما يمنحها قدرة على معالجة العلل بدل تكرارها. 

ويضيف الكوت، أن اقتراح إطار زمني محدد لمعالجة القوانين الانتخابية وإعادة هيكلة مفوضية الانتخابات، يجعل مجلسي النواب والدولة في مواجهة الخيار الرابع إذا لم يعملا على الأمرين، 

مشيراً إلى نقطة قوة أخرى تتمثل في حصر دور المجلسين في إجراء التعديل على القوانين الانتخابية وهيكلة المفوضية، من دون إشراكهما في الحوار المجتمعي.

في المقابل، يلفت الكوت إلى نقاط ضعف قد تهدد تنفيذ الخريطة، منها غياب آلية محددة لاختيار الحكومة الموحدة، 

معتبراً أن الخريطة تركت ذلك مفتوحاً إلى حين التوافق على القوانين الانتخابية، ما يؤدي برأيه إلى "ربط غير واضح بين تعديل القوانين والاتفاق على تشكيل الحكومة". 

علاوة على أن "طول سلسلة الخطوات في الخريطة بحيث تمهد كل منها للأخرى"، يمثل "خطراً، إذ إن فشل أي خطوة قد يربك المسار الكامل، خصوصاً في خطوة الحوار المجتمعي التي قد تطول دون ضبطه بآليات صارمة"، وفق رأيه.

عوائق معقدة في طريق الحلّ

وأظهرت البيانات المبكرة للقادة الليبيين مواقف متباينة، إذ اعتبر الدبيبة أن تعديل القوانين الانتخابية هو "العائق الذي عطّل مسار الانتخابات منذ 2021"، وأن مطالبة البعثة بالتعديل يتوافق مع ما نادت به حكومته سابقا. 

ورحب أيضا بإنهاء ما وصفه بـ"الأجسام الموازية" وتوحيد المؤسسات، لكنه حذر من استغلال هذا الهدف لتعطيل الاستحقاق الانتخابي. في المقابل، ركز صالح وحماد على تشكيل حكومة موحدة.

ويصف الكوت هذه المواقف بـ"الانتقائية"، فالدبيبة ركّز على تغيير الإطار القانوني الانتخابي وتجاهل الحكومة الجديدة، بينما بارك صالح وحماد الحكومة الموحدة وتجاهلا تعديل القوانين.

 ويحذر الكوت من أن تمثل هذه المواقف مؤشرات أولية تحول الخريطة إلى "أداة لتصفية الحسابات أكثر من كونها إطاراً جامعاً"، مذكّراً بما حدث مع خريطة 2020 حين عاد الانقسام ووظّف كل طرف بنودها ضد الآخر. 

ويشير الكوت إلى صعوبات أخرى قد تعترض طريق تيتيه، ومنها التحولات أخيراً على الصعيد العسكري، 

حيث رسّخ اللواء المتقاعد خليفة حفتر موقعه في جنوب وشرق البلاد "بما يشبه الكيان السياسي والعسكري المستقل، بقوام حكومة وبرلمان وجيش، فحتى وإن حدثت الانتخابات فلن يتغير موقفه على الأرض".
 
وفي غرب البلاد، يلفت الكوت إلى هشاشة الوضع الأمني، خصوصاً مع استمرار التصعيد بين الحكومة وجهاز الردع منذ عدة أشهر، ما يجعل الوضع مرشحاً للانفجار في أي وقت، 

مضيفاً أنه "في مقابل رسوخ وضع حفتر، فغرب البلاد يشهد تشظياً عميقاً، لا سيما في وجود معارضين للحكومة التي تكافح في الوقت ذاته لفرض نفسها في العاصمة". 

وعلاوة على ذلك، يشير الكوت إلى العراقيل المؤسساتية، فمجلسا النواب والدولة، اللذان عرقلا الخريطة السابقة، ما يزالان يمتلكان أوراق تعطيل المسار الحالي، بما فيها توحيد المؤسسات المالية والإدارية والمصادقة على أي تسوية جديدة. 

وتساءل: "مع التلويح بالخيار الرابع لإجبارهما على المضي، إلا أن الخريطة لم تتضمن أي توضيح بشأن من يملك صلاحية نقل المرحلة إلى الخيار الرابع، وبأي آليات، 

فليس من المقبول تصور أن الجميع سيقبل بالخروج من المشهد بسهولة، ولا توجد أي معطيات تشير إلى قدرة البعثة على بناء مجلس تأسيسي يرث الجميع ليقود مرحلة انتقالية مختلفة".
 
ويخلص الكوت إلى أن تيتيه وضعت نفسها في مواجهة "نظام مُركّب من الصعوبات والعراقيل"، سياسية بمنطق الإقصاء، وعسكرية بفرض الأمر الواقع، ومؤسسية بامتلاك مجلسي النواب والدولة للقرار. 

وبالتوازي مع تعويلها على الحوار المجتمعي كبديل عن النخبة السياسية الحالية، يلفت الكون إلى عوامل فقدان الثقة لدى الشرائح المجتمعية، والاختلاف في الولاءات الاجتماعية، 

خصوصاً في جانب حفتر، الذي حظيت قراراته الأخيرة بقبول المكونات القبلية المحلية عبر تعيين أولاده في مناصب حسّاسة (عيّن حفتر الأربعاء الماضي، نجله خالد رئيساً للأركان العامة لقواته بدلاً عن الفريق عبد الرازق الناظوري)، بما يشير إلى تقبل التوريث العسكري السياسي.

يذكر أن وزارة الداخلية في ليبيا والبعثة الأممية أعلنتا أول من أمس، أن مقر البعثة الرئيسي في طرابلس استُهدف مساء الخميس بصاروخ سقط بالقرب منه (بمنطقة جنزور) دون التسبب بخسائر بشرية أو أضرار.

 وأُبلغت البعثة بالهجوم الصاروخي خلال إحاطة تيتيه، وفق ما أوضحت. وأعلنت الداخلية في طرابلس أن "محاولة هجوم بصاروخ (أس بي جي) أُحبطت بفضل يقظة الشرطة وقوات الأمن"،

 واصفة الهجوم بأنه "سابقة خطيرة"، معلنة عن وضع "خطة محكمة لتأمين مقر بعثة الأمم المتحدة والبعثات الدبلوماسية".

أسامة علي
صحافي ليبي