Logo

المهل والصفقات في سياسات ترمب

 تركز نقاش قادة أوروبا إثر هزيمة الإمبراطورية الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت حول طبيعة السلام المقبل مع فرنسا، فالصقور في بروسيا وروسيا القيصرية رغبوا بفرض سلام "يقوم على الانتقام" من الإمبراطورية المهزومة،

 لكن وزير خارجية الإمبراطورية النمسوية مترنيخ، والذي وصف نفسه بالطبيب العريق في مستشفى العالم، أراد سلاماً قائماً على الرغبة في ترسيخ توازن متكامل قدر الإمكان بين القوى ونجح في ذلك، 

ونعمت أوروبا بقرن من السلام المقبول (1815 - 1914) قبل أن تفجره مطامع القوى الأوروبية في الحرب العالمية الأولى.

صيغة مترنيخ للسلام استندت إلى موازين القوى الفعلية وإلى دبلوماسية التفاوض والمؤتمرات الجامعة بدءاً من مؤتمر فيينا(1813)، ومع أنها لم تمنع تجدد الحروب والثورات لكنها كانت الأكثر واقعية على مدى قرن كامل، 

وجعلت من الرجل "صخرة الاستقرار" كما وصف نفسه عشية رحيله (1859) .

وبعد أكثر من 150 عاماً يحاول الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن يقدم نفسه رجلاً يفرض النظام العام في العالم، وأنه مليء بالرغبة في أن يوصف بصانع السلام الحائز على جوائزه، وبسماع الإشادات من الأقربين والأبعدين في شخصه ومسيرته،

 لكنه يبدو بعيداً من واقعية مترنيخ وحساباته وأساليبه، فهو لا ينتظر مآلات موازين القوى ليبني عليها استنتاجاته بل يعمل على صنع هذه الموازين بقراراته الاقتصادية والسياسية ليحاول بعدها فرض مخارجه من دون إشراك الآخرين.

ولم يتبع منطق مترنيخ ولا أساليب هنري كيسنجر، رجل الإدارة الأميركية الذي سيدمغ الثلث الأخير من القرن الـ 20 ببصمته الذكية، فقد كان كيسنجر مثقفاً مهووساً بالتاريخ، 

وعندما سجل لحكومته خرقاً دبلوماسياً إستراتيجياً في استعادة العلاقة مع الصين الشعبية (1971)، لم يعتمد الاستعراض، وكان في باكستان عندما طار سراً إلى بكين ليلتقي على مدى ما يقارب الـ17 ساعة شو إن لاي، الرجل الثاني بعد ماو تسي تونغ، 

ويقنعه بجدوى العلاقات الجيدة مع الولايات المتحدة الأميركية التي كانت تعيش هواجس الصدام مع الاتحاد السوفياتي.

يعمل ترمب بعيداً من أسلوبي الوزيرين النمسوي والأميركي، فدبلوماسية الاستعراض والمهل تميز إدارته وقليلاً ما ترد السرية في سلوكه، والآخرون قوى ودولاً ومؤسسات حليفة يجري إبلاغها والضغط عليها، ومنطق تحديد المُهل ساد سلوكيات ترمب منذ توليه الرئاسة، 

وقد يكون لهذا النهج ما يبرره، لكن النتائج هي التي تحدد الجدوى.

اعتمد منذ ما قبل انتخابه سياسة الوعود بإنهاء الحروب، وقال بعد تسلمه مهماته الرئاسية إنه أنهى ستاً منها، لكن أي حرب يواجهها العالم الآن لم تنته كما يشتهي ترمب أو كما يخطط، وتحقيقاً لتلك الوعود لجأ إلى إعطاء المُهل 

وقال خلال الحملة الرئاسية وبعدها إنه لو كان رئيساً، بدلاً من الديمقراطي جوزيف بايدن، لما نشبت الحرب الروسية - الأوكرانية، ولما اندلعت حرب غزة، وما كانت إيران لتجرؤ على المضي في برنامجها النووي، 

وعندما اُنتخب وبات رئيساً وعد بإنهاء الحروب في غزة وأوكرانيا ووضع حدٍ لطموحات إيران النووية والإقليمية، 

وتتالت تصريحاته عن وقف المعارك في القطاع الفلسطيني وبدأت بمشروع إخلائه من السكان وتراجعت للسعي إلى وقف القتال والإفراج عن الأسرى والمخطوفين، وتوالت الوعود بإنهاء كل شيء خلال أسبوع أو أكثر، 

وآخر تلك الوعود صدر قبل أسبوع وفيه قال ترمب إن الحرب في غزة ستنتهي خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وأنه خلال الأسبوعين أو الثلاثة المقبلة ستكون هناك نهاية جيدة وحاسمة"،

 لكن في اليوم التالي (قبل أسبوع) تراجع الرئيس عن تأكيداته ليقول إنه "لا يوجد حل نهائي لحرب غزة، وأنها مستمرة منذ فترة طويلة، والصراع يعود لآلاف السنين ولا حل نهائياً"، 

ومع ذلك أضاف "نأمل أن تحل الأمور بسرعة كبيرة في ما يتعلق بغزة وكذلك في ما يتعلق بروسيا وأوكرانيا".
 
وتراجعت مُهل ترمب في غزة لمصلحة منطق إسرائيل الحربي الذي يقوده بنيامين نتنياهو، وأمام خطط إعادة احتلال القطاع وتشريد سكانه وقتلهم بدا ترمب وكأنه يسير خلف نتنياهو ويتخلى عن صناعة حل تنشط من أجله وساطة مبعوثه ستيف ويتكوف، 

وأمام عدم الرغبة في تسوية حقيقية تأخذ بعين الاعتبار إرساء سلام فلسطيني - إسرائيلي شامل، تسقط المُهل وتسقط الصفقة التي صاغت هذه المُهل من أجل تحقيقها،

 فعملياً يواصل ترمب في تغطيته اللامشروطة لنتنياهو كما فعل من قبله غريمه اللدود بايدن من دعم شامل للدولة الإسرائيلية في حربها على الفلسطينيين، لكن بايدن تحدث في نهاية عهده عن ضرورة قيام دولة فلسطينية، 

بينما لا يزال خليفته على تبنيه الكامل لمنطق اليمين الإسرائيلي في رفضه السماع باسم فلسطين أو الدولة الفلسطينية، وصولاً إلى منع التأشيرات عن الرئيس الفلسطيني وأركان السلطة الفلسطينية الذين يستعدون للمشاركة في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة،

 إذ ينتظر أن تتحول المبادرة السعودية - الفرنسية من أجل حل الدولتين إلى بند أساس على جدول أعمال الدول المشاركة.

وفي السياق نفسه يقف ترمب إلى جانب حروب إسرائيل المفتوحة بما في ذلك ضد إيران، وهو ما عمل بايدن على كبحه ومنع تمدده، ففي مارس (آذار) الماضي وجّه الرئيس الأميركي رسالة أشبه بإنذار إلى المرشد الإيراني علي خامنئي للتفاوض حول إنهاء برنامج إيران النووي، 

وقيل يومها إن مهلة الإنذار تتراوح بين شهرين وستة أشهر للتوصل إلى اتفاق، وخلال الشهرين التاليين عقدت خمس جولات من المفاوضات بين البلدين، ولم تعقد السادسة بسبب الهجوم الإسرائيلي الواسع على إيران الذي جرى تتويجه بالغارات الأميركية الشهيرة على منشآت إيران النووية.

تنتهي مهلة الأشهر الستة في نهاية سبتمبر (أيلول) الجاري، ومن غير الواضح ما الخطوة التالية مع قول خامنئي "إن المشكلة مع أميركا غير قابلة للحل"، وترداد رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان أن "إيران لن تنحني لأي بلطجي"، 

وقد يكون هذا الكلام الإيراني تعبيراً عن رفض للتسويات وتفضيل المواجهة المباشرة أو عبر الأذرع التي لا تزال فاعلة أو يجري تفعيلها، وقد يخفي استعداداً للعودة للتفاوض،

 لكن ما ينقص كل هذه الصورة الشرق أوسطية هو الجواب عن مضمون الصفقة التي سيجري التوصل إليها، وهل هي صفقة ترضي إيران وأميركا وإسرائيل، أم صفقة تسهم في حل مشكلات المنطقة الفعلية والمتشعبة وتسهم في إرساء سلام حقيقي.

كل شيء متروك ومؤجل إلى مجهول شبه معلوم، فالتوتر يتصاعد مجدداً على الجبهة الإيرانية واحتمالات الحرب أكثر ما يتحدث عنه القادة الإيرانيون، 

فيما يتفاقم الصراع الروسي - الأوكراني وتتآكل مُهل ترمب لفلاديمير بوتين واحدة تلو الأخرى، وآخرها تلك التي أعطاها البيت الأبيض للكرملين على أن تنتهي في الـ 10 من أغسطس (آب) الماضي، ثم أعقبها لقاء القمة في ألاسكا، 

وبعد قمة الـ 22 من أغسطس مدد ترمب المهلة لبوتين أسبوعين، أي حتى نهاية الأسبوع الأول من سبتمبر الجاري، ودعاه إلى لقاء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي،

 وقال ترمب رداً على سائليه "سأعرف خلال أسبوعين ما سأفعله"، ولم يحصل لقاء الرئيسين الروسي والأوكراني وليس في الأفق احتمال حصوله، وفي المقابل استعرت حرب الصواريخ والمسيرات والجبهات على ضفاف الدنيبر.

يتعامل ترمب كملك مع الأميركيين، تقول "نيويورك تايمز"، لكنه يفعلها منذ انتخابه مع العالم أجمع، وهو في الواقع لم يحصد حتى الآن ما يضيفه إلى رصيده، فوعوده الكبرى والرائعة لم تترجم وقائع محسوسة ومُهله تتمدد أمام الأزمات المتفاقمة،

 ومع اقتراب مرور عام على انتخابه رئيساً يخشى ألا يكون طبيباً للعالم كما صنف مترنيخ نفسه، ولا أستاذاً في إدارة شؤون الكرة الأرضية بسرية وثقافة كما فعل هنري كيسنجر،

 بل على العكس من ذلك قد يتحول من طبيب إلى جراح، وهو ما ستظهره سلوكياته المقبلة في شأن إيران والعلاقة مع الأزمة الأوكرانية، 

لكن السؤال الأساس الذي سينتظر جواباً هو عن العلاقة بين المُهلة والصفقة في كل هذه الأزمات، فالصفقة هي هدف ترمب المعلن والنهائي.

طوني فرنسيس 
إعلامي وكاتب لبناني