الحركات الدينية وسرديات شرعنت العنف والاستبداد
منذ القدم، لجأت الحركات الدينية المسلحة، والجماعات الفاشية، والأنظمة الديكتاتورية إلى صناعة سرديات أسطورية تُشرعن العنف والاستبداد.
والسؤال الإشكالي الذي ينطلق منه هذا النص هو: كيف تُسهم هذه السرديات في إلغاء فردية الإنسان وتحويله إلى رمز في خدمة السلطة، وكيف يمكن تفكيكها لإعادة الاعتبار للإنسان كذات حرّة؟
يُعرّف بول ريكور السردية باعتبارها البنية الرمزية التي تنظّم التجربة الإنسانية في شكل قصة تُضفي على الواقع معنى وتماسكًا.
في حين يذهب ميشيل فوكو إلى أن الخطاب، بما فيه السردية، ليس محايدًا بل أداة للضبط والسيطرة، إذ يُعاد تشكيل الوعي الجمعي ليتماهى مع السلطة.
ومن منظور حنّة أرندت، تمثّل التوتاليتارية ذروة هذا التوظيف، حيث يُفرغ الإنسان من فرديته ليصبح مجرد وظيفة داخل جهاز سلطوي.
أمّا زيغمونت باومان، فيكشف كيف أنّ الحداثة نفسها ـ عبر عقلانيتها الأداتية ـ يمكن أن تحوّل الإنسان إلى رقم داخل ماكينة بيروقراطية، كما تجلّى في الهولوكوست.
تقوم هذه السرديات على نزع إنسانية الفرد وتحويله إلى رمز للفداء أو التضحية. فالموت لا يُقدَّم كخسارة، بل كجزء من "النصر الأكبر".
هنا يحضر نموذج سيزيف: الذي حُكم عليه أن يدحرج صخرته إلى الأبد. وقد قرأه ألبير كامو كرمز للعبث ولإمكانية السعادة في قلب المأساة،
غير أن هذه القراءة تغفل بعدًا حاسمًا: سيزيف الإنسان، الذي يملك الحق في الرفض، لا سيزيف الرمز الذي يُملى عليه قدره.
آلية التشييء هذه نجدها في الأدب والتاريخ معًا. ففي رواية مزرعة الحيوان لجورج أورويل، يجرّ الحصان "بوكسر" عربة الطغيان بلا كلل، حتى نهايته المأساوية،
بينما تستمتع نخبة الخنازير بامتيازاتها. وتاريخيًا، حوّلت النازية المواطن الألماني إلى "جندي-رمز" يموت من أجل الأمة الآرية.
وفي السياق العربي، أنتجت أنظمة قومية ودينية سرديات "الشهادة من أجل الوطن" أو "انتصار الدم على السيف"، كما في إعادة إنتاج مأساة الحسين، حيث تحوّلت معاناته إلى رمز أزلي يُستثمر سياسيًا ودينيًا لتبرير الألم بوصفه نصرًا مؤجلًا.
لا يقتصر الأمر على الماضي. ففي السياقات الراهنة، ما تزال أنظمة سلطوية عربية تروّج لخطاب "التضحية من أجل التنمية" أو "المقاومة"، حيث يُطلب من المواطن تحمّل الفقر والقمع مقابل وعود مستقبلية غامضة،
بينما تحيا النخب في واقع مغاير. وعلى المستوى العالمي، قد تتحوّل التكنولوجيا إلى سردية جديدة: حيث يُختزل الإنسان إلى "بيانات" أو "مستهلك رقمي"، في إعادة إنتاج حديثة لآليات التشييء نفسها التي مارسها الاستبداد القديم.
الخيط الناظم بين هذه التجارب هو تشييء الإنسان: أي اختزاله في رمز وظيفي ضمن خطاب سلطوي. والسؤال الفلسفي الملحّ هو: كيف نعيد الاعتبار للإنسان كإنسان، لا كرمز؟
الإجابة تقتضي الانتقال من نقد السرديات إلى بناء بدائل. فالمطلوب ليس فقط فضح آليات الأسطورة، بل أيضًا تأسيس خطاب إنساني-أخلاقي يجعل من الفرد ذاتًا فاعلة لا وقودًا لسردية كبرى.
وهذا لا يتحقق إلا عبر مشروع فلسفي وسياسي يُرسّخ الحرية، والمساءلة، والاعتراف بالإنسان كغاية في ذاته، لا كوسيلة لغايات السلطة أو الأيديولوجيا.
حمزة الموسوي