Logo

الوقائع تسقط الأوهام

 حسناً فعلت حركة حماس بموافقتها المبدئية على خطّة الرئيس الأميركي ترامب، وعلى طريقة "نعم ولكن"، بالرغم من التعديلات التي أدخلها رئيس حكومة الإرهاب الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، فيها بموافقة ترامب.

 كان رهان الشريكَين، في رسم مصير غزّة والشرق الأوسط الجديد وقيام "إسرائيل الكبرى"، أن ترفض "حماس" الخطّة، فينقضّ جيش الإرهاب على غزّة ويهجّر أهلها، وينفّذ الشقّ الثاني من الخطّة. 

أفرحت الموافقة على الخطّة الغزّيين. أخرجتهم الى دائرة الهدوء النسبي إلى التنفّس. 

صحيحٌ أننا في بداية طريقٍ صعب، والأهداف الإسرائيلية لم تتغيّر، لكن أهل غزّة يستحقّون فرصةً، شيئاً من الراحة.

 تعرّضوا لمذبحة حقيقية، عاشوا ما لم يعشه شعبٌ في العالم، صمدوا، أصرّوا على البقاء في أرضهم. وقف النار لحظة انفراج، هدوء، تنفّس، واستعداد لما هو آت.
 
لطالما تحدّث كمال جنبلاط عن "خطأ الوقوع في تقدير طاقة الشعب على الصمود". تجاوز الشعب الفلسطيني حدود الطاقة المعهودة إلى الاستثناء بما فاق التصوّر والتقدير. 

والآن بدأت معركة جديدة. جيش الإرهاب الذي أعلن رئيس أركانه وقف العمليات بعد إعلان "حماس"، عاد إلى ممارسة ترفه وهوسه ومهمّته الأساسية: 

القتل، في خرق فاضح للاتفاق، وتلاعب بطلب ترامب وقف النار، الذي خرق بدوره قراره والتزاماته، وأعطى تفسيراً جديداً للاتفاق:

 "وقف إطلاق النار سيدخل حيّز التنفيذ عند موافقة "حماس" على خطّ انسحاب أولي وافقت عليه إسرائيل"، مبرّراً بذلك استمرار العدوان على غزّة، والابتزاز. 

ردّت "حماس": "لم نوافق على كامل الخطّة، والقضايا المتعلّقة بمستقبل القطاع بحاجة إلى حوار فلسطيني". فقال نتنياهو: "لن نخضع لإملاءات حماس"(!).

أراد ترامب وقف النار لتحقيق أمرَين: يريد جائزة نوبل للسلام، كما ذكرنا سابقاً، وإذا لم يحصل ذلك فهي إهانة للولايات المتحدة، 

ويريد أيضاً مساعدة إسرائيل لفكّ العزلة الدولية عنها ومواجهة حملة العداء لها، وتجاوز التصويت على الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة لاستكمال تحقيق أهداف الحرب لاحقاً. 

في هذا السياق، وبعد هجومٍ لاذعٍ شنّه على الحملة ضدّ إسرائيل وأعداء الساميّة التي ينفّذها المؤثّرون، مذكّراً باليمين الألماني في عصر النازية. 

كشف نتنياهو عمّا دار في جانب مهم من لقائه ترامب، الذي خُصّص لمواجهة المؤثّرين المجانين، الذين تجب محاربتهم بمؤثّرين،

 فقال: "أهم ما يجري الآن هو الإعداد لصفقة شراء "تيك توك"، ويجب التركيز في منصة إكس، والتفاهم مع إيلون ماسك، فهو ليس عدواً. إنهم يراجعون الحرب ونتائجها ويستعدّون للمرحلة الجديدة لاستكمالها.

هذه عادة إسرائيل، وهذا التزام أميركا. يأخذون ما يريدون، ثمّ ينقلبون على الاتفاقات والعهود. تتصرّف إسرائيل على أساس أنها أمام فرصة تاريخية لتحقيق أهدافها ولن تفوّتها. فلماذا تتراجع؟ ماذا تغيّر في الجوهر؟... 

لا شيء فعلياً. يعالج بعض التأثيرات الجانبية، الحرب على إيران ستتجدّد، والحرب على اليمن مستمرّة، وابتزاز الغرب للدول العربية والإسلامية المشاركة في الخطّة سيستمرّ. شيء من الوقت ضروري لترامب ونتنياهو (كما ذُكر أعلاه) لاستيعاب المرحلة الحالية. 

وحدها قطر نالت شيئاً بعد العدوان عليها خارج المعهود، التزام بالحماية الأميركية لها، ولو اضطر الأمر إلى التدخّل العسكري المباشر. 

وهم يحتاجون قطر في دورها ومسعاها لدفع "حماس" إلى الموافقة على الخطّة التي أُقرّت. الآخرون قالوا: "لا تطبيع قبل الإعلان عن الالتزام بدولة فلسطينية وتحديد مدّة زمنية". 

الجواب الأميركي الإسرائيلي: لا دولة فلسطينية في الأساس، ولا مهل أمام إسرائيل لتحقيق أهدافها. 

وهدّدوا بوقف التطبيع إذا أُعلن ضمّ الضفة الغربية وتركوا غزّة. ثمّ عدّلوا الخطّة ورفضوا ضمّ غزّة. فعدّل نتنياهو كل شيء لمصلحته، وهو يمسك بمفاتيح اللعبة، وبعد "نوبل"، نالها ترامب أو لم ينلها، كل شيء سيتغيّر، وسيحمّلون المسؤولية للطرف الفلسطيني.
 
تجربة اتفاقية أوسلو أمامنا عام 1993. وكانت "نوبل" جاهزةً، وزّعت بين إسحق رابين وشمعون بيريس وياسر عرفات، علماً أن محمود عبّاس كان المفاوض الأساس، فلم يبارَك. 

واستمرّت اسرائيل تهاجمه وتعتبر أنه ليس شريكاً في مكافحة الإرهاب وتحقيق السلام. وإسرائيل قتلت رابين عام 1995، ثمّ عرفات عام 2004، وقبلهما اللورد موين (إدوارد غينيس) عام 1944، وزير الدولة البريطاني الذي عارض هجرة اليهود إلى فلسطين،

 وسعى إلى حلول تفاوضية، والكونت فولك برنادوت، الدبلوماسي السويدي أول مبعوث أممي للتفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين عام 1948، الذي اقترح وضع القدس بأكملها تحت السيادة العربية. 

ثمّ قتلوا أبو إياد عام 1991 قبل أشهر من بدء مؤتمر مدريد، وأحمد الجعبري عام 2012 في غزّة، وهو يفاوض للوصول إلى تهدئة، وصالح العاروري عام 2024، وأخيراً (حتى الآن) استهداف وفد "حماس" المفاوض في الدوحة.

لا تريد إسرائيل السلام منذ 1948، فكيف اليوم وقد "جاءت الفرصة المنتظرة"، كما يقولون؟ 

لذلك، لا يجوز أن ينام العرب الذين فاوضوا عن فلسطين (وباسمها) على حرير الوعود الإسرائيلية، وغيّبوا التمثيل الفلسطيني من اللقاء مع ترامب، ومن مناقشة مستقبل فلسطين بحضور أبنائها، فصدر قرارٌ يحمل كلمات "حقّ تقرير المصير"،

 فيما قرّر ترامب ونتنياهو هذا المصير، ووافقه العرب والمسلمون الحاضرون: "لا دولة فلسطينية"، وتوني بلير شريك في إجهاض كل محاولات الوصول إلى سلام وإفراغ المفاوضات من مضمونها، 

وبالتعاون مع صهر الرئيس ترامب، الخلّاق جاريد كوشنر، ورسم مستشاره الأساس ستيف ويتكوف خطّة الازدهار الاقتصادي و"بناء المستقبل الواعد" في أرض فلسطين.

الوقائع والتجارب تسقط الأوهام كلّها، فهل يوقف الواهمون هرولتهم قبل أن تسقط إمكاناتهم كلّها بيد إسرائيل؟

غازي العريضي
وزير ونائب لبناني سابق.