ما يتأسس على القهر لا ينتج دولة!
أتصور أن المجتمع في جوهره ليس سوى شبكة قيم تحرس المعنى الإنساني وتمنحه صلابة البقاء، وفي قلب هذه الشبكة تقف المرأة بوصفها رمزاً للكرامة وامتداداً لفكرة الوطن.
وعندما تُستباح المرأة، فإن الانتهاك يتجاوز الجسد ليطال فكرة المجتمع نفسه. من هنا، تبدو جرائم الحوثية ضد اليمنيات ليست أفعالاً عابرة، بل مشروعاً لإعادة صياغة علاقة القوة عبر إذلال أقدس ما يحمله الوجدان الجمعي.
إنها لحظة كاشفة: حيث ينهار الحامي ليصبح المعتدي، وحيث ينقلب المعنى إلى نقيضه.
تحظى المرأة في المجتمع اليمني بمكانة متجذّرة في الوجدان الجمعي، حيث ارتبط الدفاع عنها بالكرامة والأخلاق والدين في آن معاً، كأنها صورة مصغّرة للوطن ذاته.
غير أنّ هذه المكانة اهتزّت تحت سلطة الميليشيا الحوثية، التي حوّلت المرأة من رمز للحماية إلى وسيلة للابتزاز، ومن فضاء إنساني محصّن إلى ساحة انتهاك مفضوح. بهذا المعنى، لم يكتفِ المشروع الحوثي بتهديد الدولة، بل نفذ إلى عمق المجتمع فشوّه أقدس رموزه.
وابتزاز الفتيات في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين لم يعد في اعتقادي حالات فردية عادية أو عابرة، بل هو فعل منظم يدمّر حياة اليمنيات ويدفع بعضهن إلى الانتحار، في سلوك لم يعرفه اليمنيون إلا في ظل هذه الميليشيا.
الانتحار هنا ليس مجرّد مأساة شخصية، بل هو كما أرى تعبير عن انهيار منظومة الحماية المجتمعية، وانكشاف المجتمع أمام سلطة تبتكر آليات للهيمنة عبر إذلال النساء وتفريغ وجودهن من المعنى.
إنّ حادثة انتحار فتاة في الحديدة خوفاً من العار بعد ابتزاز حوثي ليست الأولى، لكنها تكشف عن انتظام هذا العنف بوصفه سياسة ممنهجة. تتكرر الحوادث، وتتعدد المآسي،
فيما تُمنح الحصانة للمجرمين بغطاء من قيادات حوثية. هكذا يتحول الانتحار إلى مرآة مأساوية تفضح مشروعاً يقوم على سحق الفرد، وخصوصاً المرأة، التي صارت هدفاً استراتيجياً لتحطيم ما تبقّى من حصانة المجتمع ضد الانكسار.
فضلاً عن ذلك فإنّ تواطؤ القيادات الحوثية مع مبتزي النساء إنما يكشف أن الجريمة ليست انحرافاً عن “سلطة” وإنما "جوهر" هذه السلطة ذاتها. إنها في تصوري ليست مجرد تستر على المجرمين،
بل مشاركة فعلية في كل إذلال وانتحار وامتهان. وما قد يبدو صادماً للوعي الأخلاقي، يؤكد في الآن ذاته حقيقة الحوثية: مشروع قائم على نفي الكرامة الإنسانية،
ومهما طال بقاؤه أحد عشر عاماً، فإن مصيره إلى زوال، لأن ما يتأسس على القهر لا يمكن أن ينتج دولة ولا حياة.
في الواقع إنّ استهداف المرأة لم يكن عرضاً جانبياً في مسار الحوثية، بل تجسيداً لمعنى سلطتها القائم على النفي والإقصاء.
وفي كل حادثة ابتزاز أو انتحار، يتجلى المشروع الحوثي عارياً من أي ادعاء سياسي أو ديني، إذ يفضح نفسه بوصفه نقيضاً للإنسان ولإمكانية قيام الدولة.
ولأن ما يقوم على القهر لا يملك مقومات الاستمرار، فإن النهاية محتومة مهما طال الزمن، إذ تبقى الكرامة الإنسانية – بما تحمله المرأة من رمزيتها العميقة – هي معيار البقاء الوحيد لأي مشروع جدير بالحياة.
سامي الكاف
صحافي وكاتب يمني