Logo

معنى أن تكون يمنيا في المقام الأول

 حين تتبدى الحدود الجغرافية أقل صلابة من الانقسامات الرمزية، يعاد طرح سؤال الهوية لا بوصفه إشكالاً ثقافياً، بل كأزمة تأسيس سياسي تتقاطع فيها الرغبة في تقرير المصير مع الخوف من فقدان المعنى. 

ومسألة "الجنوب" و"الانفصال" في اعتقادي ليست مجرد جدل محلي حول حق أو مظلومية، بل هي انعكاس عميق لتحول الهوية في اليمن من رابط وطني جامع إلى أداة فرز وتفكيك وربما تفتيت، فيصبح الانتماء محكوماً بشروط اللحظة لا بتراكم التاريخ. 

وعند هذا المنعطف الخطر لا يكفي التذرع بالقانون أو المظلومية لتبرير الكيانات الناشئة، كما لا يعقل أن تختزل الهوية في سرديات مضادة، متنازعة، يعلو فيها الصوت السياسي على الوعي الوطني.

إن ما هو على المحك اليوم في تصوري ليس وحدة ترابية وحسب، بل إمكان وجود وطن مشترك، تدار فيه التعددية لا أن تقمع، وتعاد فيه صياغة "اليمنية" لا كيقين موروث بل كخيار مستقبلي مفتوح على الاعتراف لا الإقصاء الذي كثيراً ما عانيناه خلال العقود الفائتة، وما زال.

في الواقع إن اللحظة التي يبدأ فيها الجدل حول "الجنوب" و"الانفصال"، لا يعود النقاش محصوراً بجغرافيا محددة أو بذاكرة وطنية مجروحة أو مهترئة، بل يغدو اشتباكاً واسعاً مع مفاهيم مثل السيادة والانتماء والهوية وتقرير المصير.

 وعلى موقع التواصل الاجتماعي "إكس"، حيث تتقاطع الأقنعة مع الأسماء المستعارة، يتوالى السجال بين ساسة وإعلاميين وناشطين، يتناولون، أو يهاجمون، إمكان أن تنبثق من جسد اليمن الحالي كيانات منفصلة كحضرموت أو عدن أو سقطرى أو تهامة، بدعوى الحق المشروع في تقرير المصير.

ومما يزيد الصورة قتامة أن هذه النقاشات تجري في فضاء إقليمي مأزوم، إذ إن كل شقاق داخلي هو فرصة للتدخل، وكل ضعف في السيادة هو مدخل لصراع الوكالات.

 في الواقع قيام كيانات سياسية جديدة في جنوب اليمن أو شماله، لا يعني بالضرورة ولادة دول مستقلة، بل قد يعني فتح الباب أمام محميات جيوسياسية جديدة، لا تملك من الاستقلال سوى الاسم، ومن السيادة سوى العلم.
 
في اعتقادي أن "الحق" حين يتحول إلى مطلب سياسي، يصبح لزاماً علينا أن نتساءل على نحو عقلاني هل تكفي الشرعية القانونية لتأسيس دولة؟ أم أن الدولة هي، في نهاية المطاف، نتاج توافق تاريخي معقد يتجاوز مجرد النصوص ويغوص في عمق التجربة الإنسانية؟

لاحظوا معي التالي من فضلكم إن القانون الدولي، بقدر ما يعترف بحق تقرير المصير، فإنه أيضاً يضع قيوداً دقيقة عليه، بل إن وحدة الدول الحديثة باتت مقدسة بنحو لا يقل صرامة عن قدسية هذا الحق.

لنقرأ الحق في تقرير المصير من جديد، في حقيقته لم يمنح هذا الحق ليكون أداة لإعادة تفكيك الدول المستقرة، بل وُضع أساساً لتصفية الاستعمار الكولونيالي والتمييز العنصري.

 وهو حق تاريخي ظهر كرد فعل على أوضاع استثنائية، وليس قاعدة عامة لإعادة نحت خرائط الدول كلما بدا أن الانقسام هو الحل الأسهل. 

وفي هذا السياق، لا تبدو الحال اليمنية منطبقة على النماذج التي تأسس من أجلها هذا المبدأ، مما يجعل تطبيقه محفوفاً بأخطار قانونية وسياسية واجتماعية لا يمكن تجاهلها.

إن موضوع الهوية، كما يوضحه أمين معلوف في "الهويات القاتلة"، ليس شيئاً يمنح مرة واحدة وإلى الأبد. الهويات، كما أرى، تتغير وتتداخل وتتجدد، وهي بطبيعتها كائنات متحركة وديناميكية، تتغذى من التاريخ وتتشكل عبر المراحل والاختيارات. 

وفي اليمن، كثيراً ما كانت الهوية الوطنية، على مدى العقود الستة الماضية في الأقل، عاملاً جمعياً يوحد السكان على أساس الأرض واللغة والثقافة والتاريخ المشترك. 

إلا أن هذه الهوية نفسها باتت عرضة للتهديد من قبل مشاريع سياسية تتبنى هويات متضادة، تميل إلى الطعن في "يمنية اليمن"، وإعادة إنتاج تصورات ضيقة عن الانتماء.

اليوم، هناك من يجادل بأن الشمال أصبح رهينة لهوية جديدة مفروضة بالقوة، هي "الهوية الحوثية" التي تمثل خروجاً عن السياق اليمني الجامع منذ انقلاب الـ21 من سبتمبر (أيلول) عام 2014،

 بينما في الجنوب أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي في الـ11 من مايو (أيار) 2017 تمثيله لهوية أخرى مفترضة "الجنوب العربي"، وهي هوية لا تتعارض فقط مع الشمال، بل تتنازع حتى مع الجنوب ذاته، مما أكدته حتى قبل تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي، 

إذ أشرتُ إلى أن الهوية غير اليمنية ستؤدي إلى إطالة أمد الصراع لا مع الشماليين وحدهم، بل مع الجنوبيين الذين ما زالوا يعتبرون أنفسهم يمنيين.

والتجربة الكاتالونية، كما أشارت تقارير دولية عدة، ومن بينها ما نشرته "دويتشه فيله"، تقدم درساً بالغ الأهمية. 

فعلى رغم أن كاتالونيا تملك لغة وهوية خاصة، فإن الانفصال عن إسبانيا لم يكن ممكناً من دون توافق دستوري داخلي، مما لم يتوافر. 

والدرس هنا واضح لا توجد شرعية دولية للانفصال إذا لم يكن تعبيراً عن مظلومية موثقة ضمن إطار الاستعمار أو التمييز العنصري، أو إذا لم يكن نتيجة اتفاق داخلي. ما دون ذلك هو تمرد دستوري يقابل برفض دولي، وربما بعنف داخلي.

وهنا يتعين علينا أن نعود للسؤال المركزي الذي يطرحه كثر هل الهوية المأزومة تبرر الانفصال؟ أم أن المسار الطبيعي لحل الإشكالات الهوياتية هو تفكيك المركزية السياسية وبناء نظام اتحادي يعترف بالتنوع من دون أن يتنازل عن الوحدة؟

في اعتقادي أن الانفصال ليس بالضرورة حلاً للهويات المتنازعة، ولا حتى ضم مأرب وتعز الشماليتين إلى الجنوب العربي المزعوم، بل قد يكون عاملاً مضاعفاً لإنتاج صراعات داخل الكيان الجديد ذاته لا يشعر بخطورته الساسة المراهقون، خصوصاً إذا لم يكن هناك وعي مشترك ولا مؤسسات ناظمة ولا ذاكرة وطنية جامعة.

وإذا ما تجاهلت القوى السياسية، في الشمال والجنوب على حد سواء، هذه المعضلة الهوياتية، فإن النتيجة الحتمية ستكون مزيداً من التفتت، لا فقط جغرافياً، بل معنوياً أيضاً. 

انظروا وحسب إلى ما يحدث على الأرض لتدركوا خطورة ما سيحدث. ستنهار المعاني المؤسسة لأي تعايش وطني، وسيكون الحديث عن "حل شامل وعادل ومستدام" مجرد أمنية تلهو في الفراغ. 

فالهوية هنا في تصوري ليست فقط سؤالاً فلسفياً، بل مدخلاً جوهرياً لأي مشروع سياسي يريد أن يكون ممكناً.

من هذا المنظور، فإن اليمن لا يعاني فقط انقساماً سياسياً علنياً صارخاً أو عسكرياً معقداً ماثلاً على الأرض، بل أزمة تصور حول ما يعنيه أن تكون يمنياً في المقام الأول. 

وهو سؤال لا يمكن حسمه بالقوة، ولا تجاهله بالخطابات الشعبوية أو بـ"الهرجلة" في مواقع التواصل الاجتماعي، بل يتطلب نقاشاً وطنياً عميقاً لماهية الدولة، ويعيد تعريف الهوية الوطنية بوصفها مشروعاً مستقبلياً جامعاً، لا إرثاً مغلقاً أو انتماء جينياً أو سردية غالبة.

في الواقع "لا تنهار الدولة دفعة واحدة، بل تتآكل من أطرافها حين يعاد توزيع مفرداتها السيادية على كيانات متناسلة لا يجمعها سوى القلق من الفراغ والرغبة في ملئه، كل بطريقته". 

ما بين القوسين مقتبس من مقالة سابقة لي في "اندبندنت عربية" بعنوان "حين تتناسل الدولة في اليمن خارج ذاتها"، وهو يدعم بلا شك المشار إليه أعلاه.

في نهاية المطاف، فإن ما يحدث في اليمن ليس صراعاً بين من يسعى إلى الحفاظ على الدولة ومن يريد مغادرتها، بل بين من يؤمن بإمكان إعادة تأسيس الوطن على أسس عادلة تتسع للجميع، 

وبين من يرى أن الانفصال وحده هو الطريق إلى الخلاص، غير أن الخلاص لا يكون في مغادرة الهويات المتعددة، بل في إدارتها بحكمة والاعتراف بها وصهرها ضمن مشروع سياسي وطني جامع. حينها فقط يمكن أن يصبح تقرير المصير خياراً ضمن الدولة، لا ضدها.

سامي الكاف 
صحافي وكاتب يمني