Logo

طبقة إضافية من الطلاء فوق جدار يمني يتداعى

 أتصور أنه في لحظات الانهيار العميق، لا تكون الحقيقة فقط ما نراه، بل ما نكفّ عن تسميته. تُصبح الكلمات وكأنها مثل طلاء فوق جدران متشققة: محاولة لتجميل ما لا يُرمّم، وستر ما لا يُخفى.

 اليمن، بهذا المعنى، لم يعد مجرد ساحة صراع على السلطة، بل تحوّل في اعتقادي إلى سؤال باحث عن المعنى نفسه: ما الدولة؟ من يمثلها؟ ومن يُعيد تعريفها في كل لحظة خطاب أو صمت؟

في الواقع لم تعد المفارقة في غياب الحلول، بل في وفرتها اللغوية وانعدام أثرها الواقعي. وبينما تتكاثر التصريحات والمبادرات، يتآكل الجدار من الداخل، ويصبح الخارج هو الجهة الوحيدة التي لا تزال تُعرّف الداخل، وتمنحه شرعية موقتة لزمن على ما يبدو لم يعد يؤمن بها.

ليس هذا النص قراءة تحليلية ناقدة فقط، بل ومحاولة للكشف عن طبقات الخطاب، وتآكل المفهوم، وتراكم الطلاء فوق جدار يتداعى.

في لحظة بدا فيها أن الدولة لم تعد مرجعاً ولا مرآة، ظهر رئيس الحكومة في الجمهورية اليمنية سالم بن بريك في صورة اللقاء مع عدد من سفراء الدول الراعية للعملية السياسية في اليمن، لا بوصفه رجل مرحلة يستند إلى حضور عسكري أو قبلي أو حزبي،

 بل كشخصية مستقلة تتكئ على الخارج لتثبيت الداخل، وتستدعي الشرعية من الحضور الدبلوماسي، لا من المركز السياسي.

المفارقة في اعتقادي لا تكمن في عقد اللقاء على رغم أهميته بلا شك، بل في اللغة التي صاغته: فبينما تحدث خبر وكالة (سبأ) الحكومية عن مناقشة "تطورات الأوضاع في اليمن"، 

خلا نص البيان المشترك الصادر يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري من أي إشارة لتلك التطورات. وكأن ما هو جوهري لم يُطرح، أو طُرح ثم حُذف، أو لم يُراد له أن يُوثّق. هنا، تبدأ السياسة من حيث تنتهي اللغة: حين يُقال ما لا يُعنى، ويُعنى ما لا يُقال.
 
هذا التناقض الافتتاحي في الخبر الحكومي، كما أرى، يفتح الباب لسلسلة من الأسئلة غير الاعتيادية، تلك التي لم تعد تبحث عن إجابة بقدر ما تطرح نفسها كمرايا متقابلة. 

فحين تؤكد الحكومة التزامها بتقديم الخدمات وتعزيز الحوكمة ودفع عجلة التنمية، فإنها تفترض ضمناً أنها تملك أدوات الدولة: السيطرة، القرار، النفوذ. لكن الواقع لا يمنحها ذلك الامتياز. فمنذ انقلاب 21 سبتمبر (أيلول) 2014، تقف الدولة على عتبة استرداد لم يتم، وعلى حافة سيادة مجروحة. فهل يُعقل أن تَعِد بما لا تملكه؟ وهل تتحول الدولة إلى كيان لغوي يتغذى على بيانات الدعم أكثر مما يتغذى على أدوات الحكم؟

دعوني أكتب بلغة أكثر دقة ووضوحاً وهدفي مصلحة وطنية عليا: في عالم السياسة، تُعد التنمية نتيجة لمعادلة تبدأ بالأمن، وتستكمل بالسيطرة، وتنضج بالاستقرار المؤسسي الفاعل. 

فكيف يمكن دفع عجلة تنمية في بلد لا تزال سلطته مقسمة، ولا تزال الميليشيات الحوثية المنقلبة على الدولة بقوة السلاح تفرض سلطتها القمعية الباطشة في المناطق الواقعة تحت سيطرتها كأمر واقع وهي جزء كبير من البلاد؟

التنمية هنا ليست برنامجاً اقتصادياً بقدر ما هي وهم مموّه بلغة الحداثة، تروّج له حكومة أتت وفق (محاصصة) ولا تمتلك سوى نصف المشهد حتى وإن كان رئيسها من الكفاءات التكنوقراط. إنها التنمية كخطاب،

 لا كفعل، كتصريح يراد به طمأنة الخارج، لا تحويل الداخل؛ أو لعله على هذا النحو: أن يقوم الخارج بطمأنة الداخل.

وفي عدن، العاصمة الموقتة، تتجلى المعضلة بصورة أوضح. حين يُقال إن الهدف هو "تعزيز حضور الحكومة" في عدن، فإن ذلك يعني ضمناً أنها غائبة أو في الأقل غير معززة، وأن العاصمة الموقتة ليست سوى عنوان فوق مدينة لا تُحكم من قِبل من يدّعي تمثيلها. 

فعدن، منذ سنوات فائتة، تحت سلطة المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي لا يخفي مشروعه السياسي ولا رؤيته لمستقبل الكيان اليمني. 

وبين حكومة محاصصة تتمسك بعدن كعاصمة رمزية للجمهورية اليمنية، وقوات مسلحة تتحكم في مفاصلها كأمر واقع، تضيع السلطة الحقيقية في المفارقة: أن تدير الدولة من مدينة لا تسيطر عليها.

وتصل المفارقة ذروتها حين نتذكر أن رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي كان قبل أسابيع أعلن أن "حل الدولتين" هو الخيار الأمثل، مستنداً في تصوره إلى واقع عسكري ماثل على الأرض يعزّز طرحه. 

هنا لم تعد الفكرة مجرد رأي سياسي، بل في اعتقادي توصيفاً لحالة قائمة: جيشان، اقتصادان، مشروعان؛ في حين الدولة لم يتم استعادتها بعد ممن انقلب عليها بقوة السلاح.

في هذا السياق، لا يبدو التصريح مستغرباً، بل يصبح كاشفاً، وفاضحاً لمعادلة قائمة يتغاضى عنها الخطاب الرسمي. وإذا بات الواقع يسبق "الدستور" و"نص إعلان نقل السلطة"، فأي معنى يبقى للسيادة؟ 

وإذا كانت الأرض منقسمة والنية غير موحدة، فهل يظل الإصرار على وحدة اليمن مجرد سردية لا يعترف بها الزمن؟

بيان السفراء المكثف الذي جدّد التزامه بدعم رئيس الوزراء والحكومة ومجلس القيادة الرئاسي، على رغم أهميته في ظل الظروف الراهنة بالغة الصعوبة والتعقيد، بل والحاجة إليه ملحّة أكثر من أي وقت مضى، إلا أنه يتبدى وكأنه يضيف طبقة أخرى من المفارقة.

دعونا نتساءل على نحو منطقي: كيف يمكن دعم حكومة محاصصة لا تُدير عدن، ومجلس قيادة لا يُجسّد على الأرض نص إعلان نقل السلطة الذي ألزم نفسه بوحدة اليمن وسيادته وسلامته الإقليمية؟

 كأن ما يحدث هو إعادة إنتاج صورة الدولة من دون مضمونها، عوضاً عن مواجهة التعقيدات الماثلة على أرض الواقع كما هي، والتصدي لها بما يعزز استعادة الدولة ممن انقلب عليها بقوة السلاح. 

فالدعم الدولي، في لحظة كهذه، هو محاولة لحفظ توازن دقيق بين أطراف لا يثق أحدها بالآخر.

وإذا عدنا إلى عبارة "ترسيخ الأهداف المشتركة الداعمة لمسار السلام والأمن والاستقرار"، فإننا نصطدم مجدداً بحاجز المعنى. كيف تُرسّخ الأهداف المشتركة بين قوى يمنية لا تتفق على تعريف واحد للوطن؟ 

كيف يُبنى السلام بين أطراف لا تلتقي حتى على تصور الدولة؟ هذه اللغة التي تَستدعي الطمأنينة، تُخفي تحتها هشاشة المشروع السياسي لدى معظم الأطراف اليمنية، وتُحوّل العملية السياسية نفسها إلى شكل من أشكال إدارة الأزمة، لا حلّها.

كل ما في هذا المشهد المعقد شديد التشابك يوحي بأن اليمن الرسمي بات يعيش على حافة المجاز. حكومة الجمهورية اليمنية موجودة في البيانات، الدولة حاضرة في اللقاءات الدبلوماسية، والمفردات تترنح بين ما يجب أن يكون وما لم يعد ممكناً. 

في هذا الواقع، لم تعد المعركة فقط مع الميليشيات أو الانفصال، بل مع هشاشة المفهوم نفسه: مفهوم الدولة، السلطة، السيادة، والانتماء.

في نهاية المطاف، يبدو أن المعضلة اليمنية لم تعد مسألة استعادة للدولة، بل إعادة تعريف لها. فبين أن تكون الدولة مجرد سردية تحمي مصالح الغير، 

أو أن تكون مشروعاً جامعاً متجدداً يُعيد لمفهوم الوطن توازنه ويحفظ أمنه وأمن جيرانه ومصالحهم المشتركة بالضرورة، تقف اليمن اليوم أمام اختبار مفصلي. 

لا يكفي أن تُصاغ البيانات، ولا أن تُعقد الاجتماعات. ما لم تتطابق الجغرافيا مع القرار، وما لم تتوحد الرؤية حول ما يعنيه أن تكون "دولة"، فإن كل دعم دولي، وكل خطاب رسمي، لن يكون سوى طبقة إضافية من الطلاء فوق جدار يتداعى.

لا بد من مواجهة تعقيدات الواقع الماثلة على الأرض والتصدي للتحديات على نحو حازم وحاسم بمشروع وطني جامع لا يستثني أحداً بما يتوافق مع إعلان نقل السلطة والذي بموجبه يمارس رئيس وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي ورئيس وأعضاء الحكومة مهامهم؛ وإلى نصه يرجعون ويحتكمون.

سامي الكاف
 صحافي وكاتب يمني