Logo

معركة فكرية ووجودية في آن

 في تاريخ الشعوب ثمة لحظات تختبر فيها القيم معناها الحقيقي، حين يتحول الوطن إلى ساحة للامتحان الوجودي، ويُصبح الدفاع عن الإنسان دفاعاً عن الفكرة التي تجسّده.

ما يحدث في اليمن اليوم ليس مجرد حرب عسكرية، بل حرب على المعنى نفسه: على فكرة المواطنة، على مفهوم الدولة، وعلى جوهر الإنسانية فينا.

 فمن رحم الجوع والدمار والتهجير، تنكشف الصورة الفاضحة لمشروع يسعى إلى تحويل الحياة إلى عبودية كبرى، والناس إلى رعايا في إمبراطورية الخوف.

 عند هذه العتبة، لا تعود المأساة حدثاً سياسياً فحسب، بل تتحول إلى سؤال أخلاقي وفلسفي عميق حول مصير الإنسان في وطن اختُطف من إنسانيته.

إنّ المأساة في المشهد اليمني الراهن، كما أرى، لم تعد محض نتيجة حرب عادية أو عابرة، بل تحوّلت إلى منهج متكامل في صناعة الألم. 

فالميليشيا الحوثية، منذ لحظة انقلابها، جعلت من القهر مشروعاً ومن الجريمة نظاماً. هجّرت أكثر من خمسة ملايين يمني من بيوتهم، ضيّقت عليهم سبل العيش، دمّرت منازلهم، وحوّلتهم إلى نازحين في وطنهم أو مشرّدين خارجه.

لم يكن ذلك في اعتقادي مجرد سلوك انتقامي، بل تجسيداً لعقيدة ترى في الإنسان المختلف خطراً وفي الوطن المشترك بدعة. لقد غدا الاضطهاد عندها ممارسة يومية تُدار ببرود إداري، وكأنّ المعاناة سياسة معتمدة وليست أثراً عرضياً للحرب.

‏من تحت أنقاض البيوت المهدّمة إلى الطوابير الممتدة على حافة الجوع، يتجلى الوجه الحقيقي لمشروعها القائم على تجويع الإنسان لكسر إرادته. أكثر من واحد وعشرين مليون يمني اليوم يعيشون تحت خط الفقر في واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية المعاصرة،

 ليس بفعل القدر، بل بفعل سياسات النهب والابتزاز الحوثية التي جعلت من الجوع سلاحاً ومن الخبز وسيلة إخضاع. فالرواتب المقطوعة والمساعدات المنهوبة ليست أخطاء إدارة، بل آليات ممنهجة لإذلال المجتمع وإخضاعه لسلطة تقوم على حرمانه من أبسط مقومات الحياة.

‏في ظل هذا الخراب، أزهقت الميليشيا أرواح نحو نصف مليون يمني، فجّرت أكثر من ألف منزل ومسجد، زرعت أكثر من مليون لغم في القرى والطرقات، وجنّدت نحو ثلاثين ألف طفل انتُزعت منهم الطفولة ليُلقوا في محرقة الحرب.

هذا في تصوري ليس صراعاً على السلطة، بل مشروع لإعادة تشكيل الإنسان اليمني وفق منطق العبودية الطائفية. فحين يتحول التعليم إلى أداة تلقين، والمناهج إلى نصوص مقدسة تُمجّد السلالة وتلعن الوطن، 

ندرك أن المعركة لم تعد على الجغرافيا، بل على وعي الأمة وهويتها.

‏وهكذا، يصبح الصراع مع الحوثية معركة فكرية ووجودية في آن - معركة بين مشروع يرى الإنسان حراً شريكاً في وطن واحد، ومشروع يريده تابعاً في طائفة مغلقة.

ليست الحرب هنا خياراً بين سلاحين، بل بين فكرتين متناقضتين في جوهر الوجود: فكرة الدولة المدنية الجامعة، وفكرة الحق الإلهي التي تشرعن الاستبداد وتؤلّه السلالة. 

ومن ثمّ، فإنّ المواجهة معها ليست دفاعاً عن سلطة، بل دفاعاً عن معنى الوطن نفسه؛ وطن لا يكون فيه الإنسان مجرد تابع في نص مغلق، بل شريكاً في كتابة تاريخه الحر.

في نهاية المطاف، ما تواجهه اليمن ليس جماعة متمردة، بل منظومة فكرية مغلقة تتغذى على نفي الدولة وتقديس الطغيان. ولهذا فإن المعركة معها ليست معركة حدود أو سلطة، بل معركة وعي وهوية، معركة إنسان يرفض أن يُختزل في طائفة أو شعار.

إنّ الوطن لا يُستعاد بالسلاح وحده، بل بالفكرة التي تمنح هذا السلاح شرعية الدفاع لا رغبة الانتقام. وهكذا، فإنّ مقاومة الحوثية ليست خياراً سياسياً، بل قدر وطنيّ لا فكاك منه؛

 لأنها مقاومة من أجل أن يبقى اليمن وطناً يتسع للناس جميعاً، لا معتقلاً روحياً تحكمه السلالة باسم السماء.

سامي الكاف 
صحافي وكاتب يمني