Logo

"تفاهة الشر" في ديارنا

 من اليمن إلى السودان، يتكاثر الشر في ديارنا "العامرة" كما لو كان جزءاً من المشهد العادي لا حدثاً استثنائياً. لم يعد الشر فعلاً شيطانياً نادراً، بل ممارسة متكررة تُبرَّر باسم الدين أو القبيلة أو الولاء للجماعة. 

ولعل الفيلسوفة الألمانية حنّة أرندت، حين صاغت مفهوم "تفاهة الشر"، لم تكن تتخيّل أن أفكارها ستجد هذا الصدى في مجتمعاتنا، حيث تتحوّل الطاعة العمياء إلى فضيلة، ويصبح القتل مجرد "تنفيذ أوامر".

في السودان، كما في فلسطين، تتشابه الوجوه وتختلف الأعلام. جندي صهيوني يطلق النار على طفل في غزة لأنه "آخر"، ومقاتل في مليشيا يهاجم مستشفى في الفاشر لأن ضحاياه "ينتمون للجهة الخطأ". 

كلاهما نتاج منظومة واحدة تُخدّر الضمير باسم العقيدة أو الانتقام، وتحيل الإنسان إلى أداة مطيعة للقتل. 

مذابح الجنجويد ليست طارئة على الجغرافيا السودانية؛ فمن مذبحة الضعين عام 1987 إلى أرمادتا عام 2023، يتكرر المشهد ذاته بوجوه جديدة. 

سقط نظام عمر البشير، الحليف الأول لتلك المليشيا، لكن ثقافة الإفلات من العقاب باقية، كما بقيت "لجان التحقيق" تستخف بالضحايا.

وفي ديار عربية أخرى لا يختلف المشهد كثيراً.

 فبعض السوريين قد يتحسسون حين يُقال إن "جنجويد تفاهة الشر" لا يختلفون عن أولئك الذين حاصروا وجوّعوا مدنهم، وقتلوا أبناء وطنهم تحت لافتة "الممانعة" أو "الدفاع عن الدولة". 

غير أن الحقيقة تبقى واحدة: الشر واحد، وإن اختلفت لغته ورايته، ما دام يقوم على تبرير القتل باسم "جماعتنا". وذلك لا يبرّر أبداً الاحتماء بشرٍّ صهيوني تافه مقابل يرتكب الإبادة الجماعية. 

المأساة ليست فقط في حجم الاستهتار بالدماء، بل في طريقة تبريرها. فكل جريمة في منطقتنا تجد من يبرّرها بخطاب "المؤامرة الخارجية" أو "المظلومية الجمعية"، حتى حين يكون القاتل من أبناء الديار نفسها. 

لقد أصبحت تفاهة الشر جزءاً من نسيج حياتنا السياسية والاجتماعية، تتغذّى على إعلام خاضع، وساسةٍ صامتين، ومجتمعات فقدت قدرتها على الغضب الأخلاقي.

والمفارقة أن ما دعت إليه أرندت لمواجهة الشر لا يحتاج إلى فلاسفة أو ثوار أو تدخلات خارجية، بل إلى أناس عاديين يمتلكون شجاعة التفكير ورفض طاعة أوامر القتل. 

فالشر لا ينتصر بقوّته، بل بخضوع الناس له. ما لم نواجه تفاهة الشر فينا، لا في غيرنا، سنظل نتبادل أدوار الضحية والجلاد، ونبرّر القتل باسم "جماعتنا". 

ستتحوّل التفاهة إلى نظام، والشر إلى عادة، والإنسان إلى رقم في طوابير المطيعين... مع أن أهل ديارنا ليسوا شراً بطبيعتهم.

ناصر السهلي
صحافي فلسطيني