Logo

الحوار مع كيان قائم على نفي الآخر خداع ذاتي مزمن

 الحديث عن السلام في المجتمعات التي تتقاطع فيها العقيدة بالسلطة، والسياسة بالمقدس، أصبح أشبه بالبحث عن يقين في فضاء من الأوهام، فحين تتلبس الفكرة الدينية بالمدفع، وتستمد الجماعة شرعيتها من نص تأويلي لا من عقد اجتماعي، يتبدد المعنى الحقيقي للدولة ويتحول الوطن إلى ساحة مفتوحة لتجريب الأيديولوجيا، عند هذه النقطة بالذات، يغدو الحوار مجرد أداة لتجميل الصراع، لا لإنهائه.

إن السلام، كما أرى، ليس أن تتوقف البنادق عن إطلاق النار، بل أن تتوقف العقول عن إنتاج العداوة، وحين تظل البنية الفكرية لجماعة ما قائمة على نفي الآخر واحتكار الحقيقة، يغدو الحديث عن "حل سياسي" معها فعلاً تجميلياً يفتقر إلى الأساس الأخلاقي قبل أن يفتقر إلى الأساس الواقعي، 

وفي هذا السياق يتجلى السؤال المركزي هل يمكن بناء سلام مع نقيض الدولة؟ أم أن الرهان على ذلك ليس سوى استمرار للصراع بوسائل أكثر لطفاً؟

تتجدد الدعوات في خضم المسارات السياسية المرتبكة التي يعيشها المشهد اليمني محلياً ودولياً، إلى البحث عن تسوية شاملة ومستدامة تضع حداً للحرب عبر الحوار مع الجماعة الحوثية.

في الواقع ثمة أصوات يمنية راحت تدعو إلى الإيمان بقدرة الحوار على تحويل العداء إلى تفاهم، متذرعة، في أحد مواقع التواصل الاجتماعي بأن "السلام يمحو ما قبله، وأن لغة الحرب لا بد من أن تستبدل بلغة المصالحة"، 

غير أن هذا الخطاب الحالم، مهما بدا نبيلاً في مظهره، يخفي خلفه وهماً سياسياً متجذراً في تجاهل طبيعة الجماعة التي تُراد محاورتها.

منذ انقلابها المسلح على الدولة في الـ 21 من سبتمبر (أيلول) عام 2014، قدمت الميليشيات الحوثية ما يكفي من الشواهد لتأكيد حقيقتها ككيان رافض لأسس الدولة ومفهوم الشراكة الوطنية،

 فالمسار الذي اتبعته منذ اللحظة الأولى للانقلاب لم يكن يوماً صراعاً من أجل المشاركة، بل حرباً من أجل الاحتكار الكامل للسلطة وممارستها على نحو قامع، وباطش لكل صوت مغاير، حتى منهج التعليم القائم في الجمهورية اليمنية غيرته تماماً بما يتوافق مع ما تسميه "المسيرة القرآنية".

انظروا معي وتأملوا، من تحت أنقاض البيوت المهدمة إلى الطوابير الممتدة على حافة الجوع، يتجلى الوجه الحقيقي لمشروعها القائم على تجويع الإنسان لكسر إرادته،

 فأكثر من 21 مليون يمني اليوم يعيشون تحت خط الفقر في واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية المعاصرة، ليس بفعل القدر، بل بفعل سياسات النهب والابتزاز الحوثية التي جعلت من الجوع سلاحاً ومن الخبز وسيلة إخضاع، 

فالرواتب المقطوعة والمساعدات المنهوبة ليست أخطاء إدارة، بل آليات ممنهجة لإذلال المجتمع وإخضاعه لسلطة تقوم على حرمانه من أبسط مقومات الحياة، 

وزعيمها عبدالملك الحوثي المكنى بـ"سيد الثورة" يحيط نفسه بهالة من القداسة وبإجراءات أمنية مشددة ومعقدة، ولا يمكن لأحد أيّاً كان اللقاء به، بل لا أحد لديه علم عن مقره أو مكان وجوده وكأنه مجرد شبح. 

ومن هنا، فإن أي حديث عن إدماج الحوثية في عملية سياسية يقوم على مبدأ "التسوية والتقاسم" هو في حقيقته إعادة تدوير للوهم ذاته الذي دمّر الدولة وأبقى البلاد رهينة الفوضى والعبث.

لقد أثبتت التجربة أن الجماعات العقائدية لا تدخل في السياسة لتمارسها، بل لتفرغها من مضمونها، فهي لا ترى في الدولة شريكاً أو إطاراً جامعاً، بل غنيمة تبرر الاستيلاء عليها باسم "الحق الإلهي" على طريق إقامة دولها الثيوقراطية، 

ولهذا فإن كل مبادرة للحوار معها تتحول، عاجلاً أم آجلاً، إلى فخ سياسي ناعم، تستخدم فيه لغة السلام كأداة لإطالة أمد السيطرة، لا لإنهائها.

إن سلطة الأمر الواقع التي تحكم بقوة السلاح لا يمكن أن تكون مشروع دولة لأن الدولة لا تقوم على الغلبة، بل على العقد الاجتماعي، وما يعيشه اليمن اليوم في تصوري ليس صراعاً على الحكم وحسب،

 بل صراعاً على مفهوم الدولة ذاتها هل هي كيان مدني جامع أم سلطة طائفية سلالية مغلقة؟ والإجابة، في ضوء التجربة الحوثية، تكاد تكون محسومة.
 
بلغة أخرى أكثر وضوحاً ودقة، إن من يراهن على تغير سلوك الميليشيات يجهل بنيتها العميقة، فهي كيان لا يتنفس إلا في بيئة الصراع، ولا يعيش إلا داخل فكرة "الاستثناء الإلهي" التي تمنحه مبرراً لرفض الآخر، 

وكلما امتدت يد السلام إليه، رد عليها برصاصة جديدة لأن التسوية بالنسبة إليه ليست غاية، بل هدنة لإعادة التمكين.

ولقد أثبتت كل محطات التفاوض السابقة أن هذه الجماعة لا تقترب من طاولة الحوار إلا لتأمين مكاسب عسكرية أو سياسية، ثم تنقلب عليها فور زوال الحاجة، 

ذلك لأنها لا ترى في الحوار التزاماً أخلاقياً أو وطنياً، بل مجرد أداة في معركة أشمل تدار بعقلية المراوغة لا بعقلية الدولة.

وفي اعتقادي أن الإصرار على الحوار مع هذه الجماعة لا يعبر عن واقعية سياسية، بل عن خداع ذاتي مزمن يعيش في ذهن ساسة يخلطون بين الرغبة في السلام واستحقاقه، فليس كل من يرفع شعار "السلام" يعنيه بناء دولة، 

كما أن السلام الحقيقي لا يولد من رحم الفرض، بل من قناعة مشتركة بالعيش المتكافئ تحت سقف القانون.

‏والحقيقة أن كل حديث عن "حل سياسي" معها لم ينتج سوى مزيد من الانقسام وإطالة أمد الحرب لأن المشكلة ليست في غياب الحوار، بل في انعدام الإيمان بجدواه من طرف لا يرى في الآخر إلا عدواً يجب إخضاعه، 

وهكذا يصبح كل اتفاق سياسي مجرد استراحة في طريق الصراع، لا خطوة في اتجاه نهايته.

فضلاً عن ذلك، ‏من الخطأ المميت التعامل مع الميليشيات الحوثية كطرف سياسي يمكن احتواؤه، فهي ليست حزباً يمكن أن يتحول بالمساومة إلى شريك في الحكم، بل كياناً قائماً على نفي الآخر،

 ومن ثم فإن محاولة دمجه في مشروع الدولة المدنية في اعتقادي ليست سوى عملية تذويب للدولة نفسها داخل مشروعه الطائفي السلالي، مما يجعل أية "تسوية" معه في حقيقتها تفكيكاً إضافياً لوحدة الكيان الوطني.

‏إن السلام الذي لا يقوم على الاعتراف المتبادل والذي يتجاهل جوهر المشكلة لمصلحة وهم "التعايش"، لا يصنع نهاية للحرب بل يرحلها، 

ولهذا فإن المعركة الوطنية لاستعادة الدولة لا يمكن أن تختزل في جولات حوار عقيمة، ولا في بيانات تصدر عن منظمات دولية، بل في وعي جمعي يدرك عن قناعة واقتناع بأن السلام لا يصنع مع النقيض البنيوي لفكرة الدولة، بل يصنع باستعادة الدولة أولاً.

في نهاية المطاف، لا يقاس السلام بما يعلن من نوايا، بل بما يبنى من حقائق، فحين تكون بنية الجماعة نقيضاً لبنية الدولة، يصبح أي حوار معها نوعاً من إعادة إنتاج الأزمة بطرق مختلفة، والسلام لا يصنعه التنازل للغلبة، بل الإصرار على استعادة جوهر الدولة بوصفها كياناً مدنياً يتجاوز الطائفة والمذهب والسلالة.

والتجارب القاسية التي مر بها اليمن علمتنا أن الطريق إلى الدولة لا يعبد بالكلمات الناعمة، بل بالإيمان الصارم بأن استعادة الدولة هي المقدمة الوحيدة لأي سلام ممكن، وما عدا ذلك، يظل حديثاً جميلاً عن سلام لا يأتي.

سامي الكاف
 صحافي وكاتب يمني