ترمب وإدارة الحلول بدل إدارة الأزمات
لا مهرب في الشرق الأوسط من مكر التاريخ ولعنة الجغرافيا. مكر التاريخ قاد إلى مسار حقبة جديدة معاكسة لما كان في حسابات "محور المقاومة".
ولعنة الجغرافيا تعيد تذكير المستعجلين بأن اللعبة لا تزال تحمل كثيراً من الدراما للوصول إلى سلام الشرق الأوسط على طريقة الرئيس دونالد ترمب.
فالزلزال الذي أحدثته عملية "طوفان الأقصى" يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 تمكن العدو المصدوم وداعمه الأميركي من توظيفه في خدمة مشروع لإعادة تشكيل المنطقة،
لم يكن جاهزاً بالمعنى الاستراتيجي والعملي بعدما فشل رهان كونداليزا رايس وزيرة الخارجية في إدارة الرئيس جورج بوش الابن على ولادته في حرب 2006.
والحسابات التي جرى على أساسها إطلاق الطوفان بعملية عسكرية وأمنية بارعة ومتقنة فاجأت نتائجها حتى قادة "حماس"، بدت في المجال الاستراتيجي متسرعة وخاطئة في النهاية.
والمسافة بعيدة بين ما على الورق وما على الأرض. فلا ما راهن عليه زعيم "حماس" يحيي السنوار وقائدها العسكري محمد ضيف حدث، وهو فتح الحدود العربية والإسلامية للزحف على فلسطين وحماية المسجد الأقصى.
ولا ما توقعاه من رد إسرائيلي يدوم أياماً وينتهي بوقف نار مثل الحروب السابقة على غزة هذه المرة،
إذ انتقل نتنياهو من "الحفاظ على ’حماس‘" كضمان لعدم قيام دولة فلسطينية إلى "القضاء على ’حماس‘" وقتل السنوار وضيف في حرب دامت عامين، وتبدلت خلالها استراتيجية العدو من "الردع" إلى "الحسم".
ولا ما بدا في "حرب الإسناد" لغزة التي بدأها زعيم "حزب الله" السيد حسن نصرالله خلال الثامن من أكتوبر نوعاً من القتال ضربة وردها على طريقة "كرة الطاولة" انتهى إلى ما هو أقل من حرب شاملة،
دمرت الجنوب والضاحية والبقاع وقتلت قادة "الحزب" وعلى رأسهم السيد حسن.
وإذا كان الرئيس جو بايدن الذي هرع إلى إسرائيل أرسل الأساطيل لحمايتها، فإن ترمب يريد بناء سلام الشرق الأوسط على قوة أميركا، بحيث تكون إسرائيل "محور" المنطقة.
ذلك أن أميركا بدأت خلال رئاسة باراك أوباما استراتيجية "المحور" في التركيز على الشرق الأقصى وتخفيف الالتزامات في الشرق الأوسط، بعدما فشلت في التوصل إلى تسوية فلسطينية - إسرائيلية انخرط فيها سيد البيت الأبيض فصدمه نتنياهو.
وما كان ترمب خارج الرغبة في التركيز على الشرق الأقصى لمواجهة الصين وتخفيف الانشغال بالشرق الأوسط وما سماها "حروب 3 آلاف عام".
كان ما يفكر فيه هو توسيع "اتفاقات أبراهام" وترتيب صفقة مع إيران على البرنامج النووي، والبحث عن ترتيبات أمنية تحول دون انفجار الصراعات في الشرق الأوسط، لكي يتفرغ للصراع مع الصين،
لكن الشرق الأوسط اقتحم البيت الأبيض وأعاد فرض نفسه على الاستراتيجية الأميركية.
وما يحاوله ترمب حالياً هو الانتقال من إدارة الأزمات في الشرق الأوسط إلى إدارة التسويات والحلول. لا بل تغيير المنطقة. والمبدأ الذي يختصر ما يفعله هو كثير من الانخراط اليوم في الشرق الأوسط من أجل قليل من الانخراط غداً.
ومن هنا التركيز على إنهاء الحرب في غزة كنقطة انطلاق نحو سلام شامل في المنطقة، لكن سلام ترمب الشامل يبدو كأنه يحتاج إلى أكثر من حرب بقوة إسرائيل ودعم أميركا.
من سحب سلاح "حزب الله" في لبنان كله إلى سحب أسلحة الميليشيات العراقية، ومن تدمير قدرة الحوثيين على تهديد الملاحة في البحر الأحمر، وربما إعادة الشرعية إلى كامل اليمن،
إلى إنهاء المشروع الإقليمي الإيراني عبر ضرب الرأس في طهران بعد ضرب الأطراف في غزة ولبنان والعراق واليمن، وإخراج إيران من سوريا الجديدة.
والمعادلة دقيقة في إنهاء اللعبة مع إيران. ففي المشروع الإقليمي الإيراني نقطة ضعف تصبح أحياناً نقطة قوة، وهي اعتماد طهران على مكون مذهبي واحد في العالم العربي هو المكون الشيعي.
وفي المشروع الأميركي نقطة قوة يمكن أن تتحول نقطة ضعف، وهي حاجة واشنطن إلى كل ألوان الطيف في العالم العربي كما في كل بلد عربي،
فضلاً عن أن القادة العرب أجمعوا في قمة بيروت عام 2002 على مبادرة للسلام تقوم على السلام الشامل، والاعتراف مقابل الانسحاب الكامل من الأرض المحتلة في حرب 1967 وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
أما المعروض في المشروع الأميركي، فإنه يتجاوز معادلة "الأرض مقابل السلام" إلى معادلة الأمن للعرب مقابل الأرض والسلام لإسرائيل.
وأما المشروع الإيراني، فإن ما يقدمه الحرب المستمرة من دون القدرة على تحرير فلسطين، والإصرار على إخراج الوجود الأميركي من غرب آسيا.
لكن أميركا ليست اللاعب الوحيد، وإن ظهر ترمب في قمة شرم الشيخ كأنه ملك المنطقة. فالصين التي يريد التركيز على الشرق الأقصى لمواجهتها تعزز علاقتها مع العرب وإسرائيل وإيران وتركيا، وتتقدم في الشرق الأقصى كقوة بحرية وجوية بعدما كانت قوة برية فحسب.
وروسيا لديها قواعد عسكرية في سوريا وخارجها ولها علاقات تاريخية مع الذين صاروا أصدقاء أميركا اليوم. وليس خارج المألوف أن يسأل أصدقاء أميركا قبل خصومها: متى يفرغ صبر ترمب على اللعبة في الشرق الأوسط ويذهب إلى لعبة أخرى؟
رفيق خوري
كاتب لبناني