Logo

قضاءٌ عقائدي على مقاس جماعة الحوثيين

 ببضع جلسات عُقدت على عجل، وفي أقل من أسبوعين، أصدرت المحكمة الجزائية المتخصصة في العاصمة صنعاء التي تسيطر عليها جماعة الحوثيين ، يوم السبت الماضي (22 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي)، حكماً قضى بإعدام 17 شخصاً رمياً بالرصاص في ميدان عام، بتهمة التخابر مع بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل،

 بالإضافة إلى سجن متهمين اثنين، ما بين ثلاث وعشر سنوات، وتبرئة متهمين اثنين آخرين. وتضمنت لائحة الإدانة من الحوثية اتهامات بالتخابر مع دول أجنبية معادية، وتلقي وسائل اتصال مشفّرة وتطبيقات لتحديد المواقع الجغرافية،

 إضافة إلى تدريبات على استخدام الكاميرات السرّية وربطها ببرامج البث المباشر.

معايير غائبة للعدالة

فترة المحاكمات أثارت التساؤلات بشأن معايير العدالة في سلطة جماعة الحوثيين حيث لم تسمح لفريق الدفاع بالاطلاع على ملفات القضية أو تقديم مرافعات كافية، 

ما يوضح، بحسب القانونيين، أن الأحكام كانت سياسية ومعدة مسبقاً، وأن المحاكم تحت هذه السلطة تحولت إلى محاكم تفتيش تُشرعن الأحكام التي تقررها السلطات الأمنية للجماعة، والتي يديرها علي حسين الحوثي، وهو نجل مؤسس الجماعة حسين بدر الدين الحوثي.
 
الصحافي فارس الحميري (المقيم في إسطنبول)، نقل عن مصادر مطلعة في صنعاء أن بعض المتهمين الذين أصدرت جماعة الحوثيين بحقهم أحكام إعدام مواطنون "عاديون"، منهم أنس أحمد سلمان المصباحي، الذي يعمل في بيع وطهي الأسماك، والذي يملك هاتفاً قديماً لا يسمح له حتى بالتواصل مع أسرته في القرية بريف محافظة ذمار، جنوبي صنعاء.

وأكد الحميري أن من بين قائمة المحكوم عليهم بالإعدام أيضاً اللواء علي أحمد السياني (كان موضوعاً تحت الإقامة الجبرية في منزله بصنعاء، وذلك بسبب قربه من الرئيس الأسبق الراحل علي عبد الله صالح، ليظهر أثناء المحاكمة). 

وكان الرئيس اليمني السابق عبدربه منصور هادي قد أصدر في مايو/ أيار 2012، قراراً بتعيين السياني مستشاراً للقائد الأعلى للقوات المسلحة،

 حيث كان قبلها يتقلد منصب مدير دائرة الاستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع، وهو أحد الضباط الذين شاركوا في الحروب الأولى ضد الحوثيين في محافظة صعدة.
 
كما أن أحد المتهمين، وفق الحميري، رجل يعاني اضطراباً نفسياً، حيث كان يردد خلال إحدى الجلسات أن علي عبد الله صالح سيعود إلى الحكم، ويتمتم كلاماً لا علاقة له بما يجري في المحكمة.

 وشملت أحكام الإعدام الحوثية أيضاً، بحسب الحميري، مواطناً آخر يعمل في الزراعة، ومواطناً يعمل سائق تاكسي، وموظفين حكوميين طالبوا بمرتباتهم.

 عضو فريق الدفاع عن المتهمين، المحامي عبد الباسط غازي، للتعليق على الإجراءات القانونية للمحاكمات، إلا أنه اعتذر، 

مؤكداً أنهم "ممنوعون من التصريح لوسائل الإعلام أو حتى الكتابة عن القضية في مواقع التواصل الاجتماعي". مع العلم أن فريق الدفاع تمّ تكليفه من قبل أهالي بعض المتهمين، بينما البعض الآخر من المتهمين مُنعوا من توكيل محامين وقرّروا الدفاع عن أنفسهم.

المحامي خليل قاسم، المقيم في تعز، والمتابع للإجراءات المعلنة بشأن القضية، قال لـ"العربي الجديد"، إن "مجريات المحاكمة الصورية التي أخرجتها جماعة الحوثيين كانت سمجة (ممّلة وسخيفة)"، 

وقدّمت إدانات للجماعة وللقضاة الذين قبلوا أن يؤدوا دوراً في هذه المهزلة، فما تُسمى بمحاكمة خلايا التخابر، افتقدت إلى أبسط معايير العدالة، فمعظم المتهمين لم يسمح لهم بتعيين محامين للدفاع عنهم، 

كما أن الإجراءات القضائية لم تستمر حتى أسبوعين، وهذه قضية كبيرة تحتاج الكثير من الوثائق والأدلة والتحقيقات والاستماع إلى الشهود وتقديم الدفوع ولإجراءات تقاضٍ طويلة، ما يثبت أن أمر الإعدام صدر منذ البداية".

وأضاف المحامي أن هناك تحايلاً من القضاء الحوثي عبر عدم تقديم الأسماء الكاملة للمتهمين وذلك بهدف إخفاء هوياتهم، وهذا يُناقض أبسط مقومات العدالة، 

كما أنه تمّ انتزاع اعترافات كاذبة تحت التعذيب، ما يدحض عدالة المحاكمات الصورية. فالقضاة هنا، وفق اعتباره، غير مستقلين، وإنما تابعون للحوثيين، 

وينفذون أوامر الجماعة بإصدار أحكام الإعدام، حيث تمّ تقديم المتهمين باعتبارهم مدانين منذ البداية، وهذا يناقض قاعدة أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، 

وهنا وجهت اتهامات جاهزة دون تقديم أي أدلة، ودون شهود، كما أن القضاة مطعون في استقلاليتهم، وإلا ما معنى منع المحامين من التصريح لوسائل الإعلام والكشف عن إجراءات المحاكمات باعتبار أن القضية تهم الرأي العام".
 
وتأتي المحاكمات الحوثية الأخيرة لتكشف عن آثار التدمير الممنهج الذي يمارسه الحوثيون بحق السلطة القضائية في البلاد، من خلال نسف استقلالية القضاء، وتسخيره ليكون تابعاً لسلطة الجماعة، ومشرعناً لسياساتها.

جماعة الحوثيين تهمش القضاء

وقد بدأ توجه جماعة الحوثيين الهادف إلى السيطرة على السلطة القضائية وإفراغها من مضامينها باعتبارها أعلى سلطة في البلاد بإقصاء من تبقى من القضاة الأكفاء عقب انقلاب الجماعة على الدولة وسيطرتها على العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/ أيلول 2014. 

وقد عمل الحوثيون على تهميش دور المعهد العالي للقضاء، واستبدال قضاته بمن يسمون "فقهاء وعلماء الشريعة"، الذين يتلقون دورات طائفية لمدة تراوح ما بين ثلاثة وستة أشهر ليتخرج الواحد منهم بدرجة قاض، في فضيحة غير مسبوقة بتاريخ البلاد.

في مطلع شهر نوفمبر الحالي، أعلنت وسائل الإعلام التابعة للحوثيين توزيع دفعة أولى تضم 83 من "خريجي الدورة التأهيلية الأولى لعلماء الشريعة"، للتدرب في العديد من المحاكم في ثمان محافظات واقعة تحت سيطرة الجماعة، تمهيداً لإحلالهم محل خريجي معهد القضاء الأعلى، في تجاوز واضح لقانون السلطة القضائية ومعهد القضاء الأعلى.

 وتفيد المعلومات  بأن عدد الدارسين في هذه الدورات الطائفية يبلغ 1600 شخص.

وجاءت هذه الخطوة على الرغم من بقاء الدفعة 24 من خريجي المعهد العالي للقضاء دون توزيع منذ أكثر من خمسة أشهر، في وقت تعاني فيه المحاكم من نقص حاد في الكادر القضائي المؤهل.

اللافت أن معظم الأسماء الواردة في كشوفات "فقهاء وعلماء الشريعة" هم من المنتمين للسلالة الهاشمية، وفقاً لما تؤكده ألقابهم، حيث سيتلقون تدريبات على يد قضاة حوثيين، دون تلقي دراسة في معهد القضاء الأعلى، أو استيفاء أي من شروط التعيين القانونية كالحصول على مؤهل في الشريعة والقانون أو بلوغ السن القانونية.

وأوضح المركز الأميركي للعدالة (ACJ)، ومقرّه ولاية ميشيغن الأميركية (مركز يمني يديره عدد من القانونيين اليمنيين في الولايات المتحدة)، أن هيئة التفتيش القضائي التابعة لمجلس القضاء الأعلى في صنعاء أصدرت قراراً يقضي بتوزيع خريجي دورة تأهيلية لعلماء الشريعة على عدد من المحاكم تمهيداً لتعيينهم في السلك القضائي. 

واعتبر المركز أن القرار مؤشر جديد إلى التدهور العميق في استقلال القضاء، ويعكس نهجاً ممنهجاً لتقويض الحياد القضائي، وتحويل المحاكم إلى "ساحات تدريب عقائدي" تحت غطاء "التأهيل المهني". 

وأضاف المركز أن الخطوة تأتي ضمن سياسة حوثية متواصلة لتسييس القضاء وإخضاعه لسلطة الجماعة، عبر إقحام خريجين ذوي تكوين شرعي بدلاً من قانوني في بنية القضاء، في ما وصفه بـ"هندسة ممنهجة للبنية القضائية في مناطق سيطرة الحوثيين".

وأشار المركز إلى أن القرار يمثل توجهاً رسمياً لإعادة تشكيل السلطة القضائية على أسس مذهبية، في مخالفة لمبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء الذي يكفله الدستور اليمني والمواثيق الدولية، بما في ذلك مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية لعام 1985. 

وذكّر المركز بأن جماعة الحوثيين عدّلت قانون السلطة القضائية سابقاً لمنح رئيس مجلس الحكم التابع لها صلاحيات التعيين القضائي، معتبراً أن القرار الأخير امتداد لتلك التعديلات الهادفة إلى إحكام السيطرة الكاملة على القضاء وتحويله إلى ذراع تنفيذية للجماعة.

كما أنشأ الحوثيون ست محاكم جديدة في صنعاء، إضافة إلى أربع أخرى تمّ إنشاؤها سابقاً، كالزكاة والوقف وغيرها، بالإضافة إلى إصدار تنقلات وتعيينات في المحاكم والنيابة العامة بشكل غير دستوري، 

حيث أعلن الحوثيون تغييرات في رؤساء أكثر من 39 محكمة وأقسام قضائية مختلفة.

هذه الخطوات جاءت امتداداً لخطوات سابقة اتخذها الحوثيون للسيطرة على السلطة القضائية، حيث عدّلوا في سبتمبر 2024 قانون السلطة القضائية القديم (قانون 1991)، بما يمنح رئيس المجلس السياسي الأعلى (السلطة التنفيذية الحوثية) صلاحية تعيين قضاة من خارج الجهاز القضائي، 

وكذلك فتح محاكم دون استشارة المجلس القضائي الأعلى، كما تمّ إنشاء هيئة "المنظومة العدلية"، والتي يرأسها القيادي الحوثي محمد علي الحوثي، وله دور إشرافي مباشر على المجلس القضائي الأعلى.

بالإضافة إلى ذلك، أنشأ الحوثيون منصب "مُشرِف" داخل المحاكم، وهؤلاء المشرفون يتبعون للحوثيين ويشرفون على عمل القضاة التقليديين، وقد يتدخل المشرف في العمل القضائي أو يؤدي دوراً وظيفياً أحياناً بدلاً من القضاة.

وبهدف نسف استقلالية القضاء، حدَّ الحوثيون دور نقابة المحامين اليمنيين وهي نقابة مستقلة وتعتبر أهم نقابة في البلاد، 

حيث أصبح ترخيص المحاماة يُمنح من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بدلاً من نقابة مستقلة، وهناك صلاحيات منحها الحوثيون للقضاة بحرمان المحامين من الترافع في قضايا معينة.

القاضي نبيل المقطري، عضو نيابة الاستئناف في تعز، أوضح أنه منذ سيطرة جماعة الحوثيين على مؤسسات الدولة، عملت على تجريف القضاء بصورة ممنهجة، وإفراغ نصوصه من مضمونها الدستوري والمهني، وتحويله من سلطة مستقلة إلى جهاز تابع يدار بالولاء لا بالقانون،

 وقد بدأ ذلك بتهميش المعهد العالي للقضاء، المؤسسة المختصة دستوريا بتأهيل القضاة، واستبداله بدورات طائفية يجري عبرها اختيار أشخاص لا يحملون المؤهلات القانونية، ولا يمرّون بأي مسار مهني معتمد، في مخالفة صريحة لمبدأ المواطنة المتساوية وتكافؤ الفرص.

وأضاف المقطري أنه "مع استمرار هذا العبث عيّنت الجماعة عناصر غير مؤهلين في مواقع قضائية حساسة، ما أدى إلى إفراغ البنية القضائية من مضمونها المؤسسي، وتحويل مؤسسات العدالة إلى هياكل شكلية لا تمارس دورها الحقيقي في حماية الحقوق وضمان المحاسبة،

 حيث أصبحت الأحكام تصدر وفقاً لتوجيهات سياسية وليس لمعايير قانونية".

وبيَّن المقطري أن الجماعة استغلت المحكمة الجزائية المتخصصة بأسوأ صورة، فعوضاً عن كونها محكمة للقضايا الخطيرة، تحولت إلى منصة لإصدار أحكام جاهزة بحق الخصوم السياسيين، بما في ذلك أحكام الإعدام، ومصادرة الأموال، استناداً إلى محاضر انتزعت بالإكراه، ومن دون ضمانات قانونية.

وأشار القاضي إلى أنه "مهما قلنا عن الصورية وعدم المشروعية، يبقى تنفيذ هذه الأحكام وخصوصاً الإعدامات، أمراً في غاية الخطورة، إذ يمثل اعتداء لا يمكن تداركه، ولا يمكن معالجته لاحقاً في أي تسوية أو مسار للدولة، 

فالحكم قد يلغى على الورق، لكن حياة الإنسان لا يمكن استعادتها، وتنفيذ هذه الأحكام يجعل عبث الجماعة بالقضاء جريمة تتجاوز السياسة، وتمس جوهر الإنسان وحقه في الحياة"، وفق رأيه.
 
فخر العزب
صحافي يمني