Logo

السودان على حافة التحوّل… هل تفتح المبادرة السعودية باب السلام؟

 تعيش الساحة السودانية واحدة من أكثر مراحلها اضطرابا منذ عقود، حيث تتقاطع فيها حسابات محلية شديدة التعقيد مع معادلات إقليمية ودولية ذات تأثير مباشر في مسار الحرب.

 وفي خضم هذا المشهد، جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي أكّد فيها الشروع في تحرك دبلوماسي واسع لإنهاء النزاع بناء على طلب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لتعيد ترتيب الاهتمام الدولي بالأزمة السودانية، 

وتكشف عن مسار جديد يتشكل حول مبادرة سعودية تسعى إلى وقف إطلاق النار وتهيئة ظروف سلام قادر على الصمود.

وأخذت هذه التصريحات مساحة بارزة في التغطيات الإعلامية العالمية، حتى غطّت على ملفات أخرى في جدول زيارة ولي العهد السعودي لواشنطن. 

ويرجع ذلك إلى أن الأزمة السودانية باتت معروضة أمام الرأي العام في العالم بصورة لم تشهدها منذ بداية الحرب، خاصة بعد الأحداث المأساوية في مدينة الفاشر وما رافقها من عنف واسع ضد المدنيين.

 فقد وُصفت تلك الأحداث في تقارير دولية بأنها من أكثر الوقائع دموية في العالم خلال العام.

تباينات أولية… واستجابات لافتة

برزت أول ردود الفعل السودانية عبر رسالة مقتضبة لرئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، حيث نشر عبر منصة “إكس” عبارة شكر موجّهة إلى ولي العهد السعودي والرئيس الأمريكي.

 ثم أعقب ذلك بيان صادر عن مجلس السيادة عبّر عن ترحيب الحكومة بجهود الرياض وواشنطن لتحقيق سلام منصف وعادل، مع الإشادة بالدور المستمر لإيقاف نزيف الدم السوداني.

في المقابل، صدرت مواقف من جماعة “صمود” التي يقودها عبد الله حمدوك وتشكّل الذراع السياسي لقوات الدعم السريع. 

وتضمّن موقف الجماعة نظرة إيجابية يرى من خلالها حمدوك أن التحرك الأمريكي قد ينعش المبادرة الرباعية السابقة ويمنح مسارها زخما جديدا يمكن أن يفتح الطريق نحو هدنة إنسانية تتيح وصول الإغاثة وتهدّئ استهداف المدنيين.

كما عبّر حزب الأمّة القومي عن تقديره للخطوة، واعتبرها موجِّهة للجهود الدولية نحو إنهاء المعاناة المتصاعدة. بينما أعلنت الحركة الإسلامية السودانية، بتوقيع أمينها العام علي أحمد كرتي، تأييدها للمبادرة السعودية،

 مع تأكيد التزامها بدعم القوات المسلحة السودانية وتجديد ارتباطها بالشعب.

في الجهة الأخرى، لم يصدر موقف من قيادة الدعم السريع حتى مساء 20 نوفمبر/ تشرين الثاني، في سلوك اعتاد عليه المتابعون لمسار الأزمة حيث يحدث تأخر متكرر في إعلان المواقف. 

ورغم غياب الموقف الرسمي، يتوقع مراقبون أن تُظهر القيادة موقفا مشروطا يتقارب مع الخط السياسي لجماعة صمود.

تلك الردود، رغم تباينها، تفتح بابا واسعا لقراءة فرص المبادرة السعودية وشروط نجاحها.

المؤشر الأول: قبول واسع يخلق نافذة للوساطة

يُعد الترحيب العام بمبادرة الرياض نقطة ارتكاز مهمة في أي عملية وساطة. وعلى الرغم من اختلاف الرؤى بين الأطراف، فإن وجود درجة من القبول يشكّل أرضية يمكن البناء عليها. فالقوى المؤيدة للدعم السريع ترى في المبادرة امتدادا لمسارات الرباعية، 

بينما ترى الحكومة والقوى الموالية لها أن مستقبل السودان السياسي لا يستوعب مليشيا مسلحة تُصنّف، بحسب تصريحات رسمية، منظمة إرهابية.

هذه التباينات لا تمنع تحرك الوساطة، خصوصا أن المبادرة تستند إلى دعم من شخصية دولية مثيرة للجدل لكنها قادرة على التأثير، مثل الرئيس ترامب.

 ووفق مصادر دبلوماسية، يمتلك ترامب علاقات معقدة مع أطراف إقليمية لها ارتباطات مباشرة بصراع السودان، الأمر الذي قد يساعد على تخفيف ممانعة بعض الداعمين الإقليميين للدعم السريع.

المؤشر الثاني: تغيّرات لافتة في موقف دول الجوار

تبدّلت مواقف بعض الدول المحيطة بالسودان خلال الأسابيع الماضية. ففي جنوب السودان التي ظلّت ساحة لوجستية حساسة خلال الحرب، حدثت تحركات سياسية داخلية فسّرها مراقبون بأنها أضعفت نفوذ مجموعات كانت تدعم الدعم السريع،

 ودفعت باتجاه تقوية تيارات حريصة على علاقات حسن الجوار.

كما أن قمّة منظمة البحيرات الكبرى، المنعقدة في الكونغو في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني، صادقت على توصيات لتصنيف الدعم السريع منظمة إرهابية. 

ويسعى أعضاء المنظمة إلى نقل الملف لمجلس الأمن والاتحاد الأفريقي بهدف إدانة الانتهاكات. ويعني ذلك تضييق المجال أمام الدعم اللوجستي الذي اعتمدت عليه المليشيا خلال الأشهر الماضية.

المؤشر الثالث: اهتمام عالمي يعيد رسم الرقابة على مسار الحرب

أصبحت الأزمة السودانية تحت رادار الإعلام الدولي بصورة غير مسبوقة، بعد إعلان ترامب ووعده بالتحرك الفعلي نحو وقف الحرب.

 وهذا النوع من الاهتمام يعيد تشكيل البيئة الدبلوماسية المحيطة بالأزمة، إذ تسعى المؤسسات الإعلامية الكبرى إلى إجراء تحقيقات معمّقة حول مصادر التمويل والتحالفات، ما يعزّز الرقابة الدولية ويحدّ من قدرة الأطراف على المناورة خلف الكواليس.

المؤشر الرابع: إدراك إقليمي لخطر استمرار النزاع

في الشرق الأوسط، يزداد الاقتناع بأن استمرار الحرب في السودان يشكّل مصدر تهديد للأمن الإقليمي. فقد عبّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن ذلك بقوله إن أمن تركيا مرتبط عضويا بأمن السودان. 

كما ترى مصر أن استقرارها مرتبط بالاستقرار السوداني، بينما تلتزم الجامعة العربية بموقف واضح يدعو إلى وقف الحرب واحترام سيادة السودان.

على المستوى الدولي، هناك شبه إجماع على أن استمرار النزاع يفاقم الأزمات الإنسانية ويخلق بيئة ملائمة لانتشار الجريمة العابرة للحدود. وتبرز موجة تضامن عالمية واسعة مع المدنيين الذين تعرّضوا للتهجير والانتهاكات، ما ولّد ضغطا معنويا إضافيا على الأطراف.

رؤى متباينة حول ما يمكن أن ينجح وما قد يعرقل

يقول د. خالد الشهري، أستاذ جامعي سعودي في العلاقات الدولية : “المبادرة السعودية تمثّل لحظة يمكن وصفها بأنها فرصة استراتيجية، خاصة أنها جاءت في توقيت يستنزف فيه الصراع الجميع. أي تحرك عملي يحتاج إلى ضمانات دولية قوية، 

مع مراقبة دقيقة لمسارات التمويل والسلاح. حالة الإنهاك السياسي والعسكري داخل السودان تخلق قابلية حقيقية لوساطة جادّة، بشرط أن يترافق ذلك مع مسار سياسي يعالج الجذور لا السطح.”

وأشار الشهري إلى أنّ انخراط الولايات المتحدة، خصوصا عبر إدارة لها نهج مختلف في التعامل مع ملفات الأمن الدولي، يعطي المبادرة ثقلا إضافيا. 

ويرى أنّ الاستجابة الأولية من الأطراف السودانية تؤشر إلى رغبة في إنهاء حالة الاستنزاف، رغم استمرار الشكوك المتبادلة.

وأضاف: “البيئة الإقليمية تغيّرت، ونشاطات المليشيات عبر الحدود تواجه مقاومة متزايدة. هذا يرفع احتمالات نجاح مسار يقوده محور دولي إقليمي متماسك. 

مع ذلك، فإن أي تسوية تحتاج إلى تصوّر واضح حول مستقبل القوات المسلحة والدعم السريع، إضافة إلى معالجة سياسية تشمل المجتمع المدني.”

د. خالد حماد: الطريق إلى وقف النار يمرّ عبر توافق دول الجوار

قدّم د. خالد حماد، أستاذ العلاقات الدولية والباحث في شؤون الشرق الأوسط، رؤية موسعة ، وصف فيها المبادرة بأنها “نافذة تلتقي عندها مصالح متعددة”.

وقال حماد: “دول الجوار أصبحت أكثر استعدادا للتعاون في منع تمدد آثار الحرب، وهناك إدراك بأن استمرار تدفق السلاح والمرتزقة عبر الحدود يهدد استقرار الإقليم برمّته. 

المبادرة السعودية تستفيد من هذا التحول، خاصة أن الرياض تمتلك قدرة على التواصل الفعّال مع الأطراف كافة، بما فيها القوى الدولية المؤثرة”.

وأوضح حماد أن دور واشنطن سيكون محوريا في كبح الدعم الخارجي الذي يغذّي طرفي النزاع، فـ“الضغط الأمريكي يمكن أن يتجه نحو تجفيف قنوات التمويل وإعادة توجيه الأطراف نحو تسوية سياسية.

 المسار يحتاج إلى خطة مراقبة دولية وإلى جدول زمني صارم يشمل انسحاب القوات من المناطق المدنية، وتثبيت هياكل محلية للإغاثة والإدارة.”

وأشار إلى أنّ المجتمع السوداني منهك بصورة غير مسبوقة، وأن أي خطوة نحو تهدئة إنسانية ستكون موضع دعم شعبي واسع.

آنا شارلوت: السودان عند نقطة تحوّل إنسانية وإعلامية

الكاتبة والصحافية الفرنسية آنا شارلوت، المحررة في أسوشييتد برس، قالت : “الأزمة السودانية تقف اليوم في موقع متقدّم ضمن الاهتمام الدولي. حجم المآسي التي حدثت خلال الأسابيع الماضية خلق صدمة واسعة في الرأي العام العالمي. 

هذا الاهتمام يمنح المبادرة السعودية زخما، لأنه يضع الأطراف تحت رقابة إعلامية خانقة.”

وأضافت: “ما لم يكن ممكنا خلال الأشهر الأولى للحرب أصبح ممكنا الآن. المجازر التي وقعت في الفاشر أثارت موجة تحقيقات عميقة في الصحافة الدولية. وهذا يضيّق الهوامش أمام القوى التي كانت تستفيد من غياب الأضواء.”

وترى شارلوت أن المبادرة السعودية تحتاج إلى دعم منظمات أممية لضمان وصول الإغاثة وإعادة فتح الممرات الإنسانية، مؤكدة أن استمرار الجوع والتهجير يخلّف آثارا تمتدّ لأجيال.

السياق الأوسع: لماذا هذه المبادرة مختلفة؟

تستند المبادرة السعودية إلى مجموعة عناصر تجعلها مختلفة عن محاولات سابقة. فالسعودية تمتلك نفوذا سياسيا مؤثرا في المنطقة، وتحتفظ بعلاقات متوازنة مع أطراف متعددة. 

كما أن الملف السوداني يكتسب وزنا مهما داخل منظومة الأمن الإقليمي، الأمر الذي يجعل الرياض طرفا قادرا على بناء مسار واقعي.

في الجانب الآخر، يشير خبراء في العلاقات الدولية إلى أن عودة ترامب إلى واجهة التغطية الإعلامية عبر الملف السوداني تعني انتقال الأزمة من الإطار الإقليمي إلى مستوى دولي أكثر حساسية.

 وهذا الانتقال قد يفرض نوعا من الالتزام على الإدارة الأمريكية في التعامل مع النزاع، خاصة في ظل تزايد الضغوط الحقوقية.

التحديات: ما الذي قد يعرقل مبادرة السلام؟

رغم المؤشرات الإيجابية، تواجه المبادرة مجموعة تحديات:

انعدام الثقة بين الأطراف

ما يزال انعدام الثقة عائقا رئيسيا. فأي اتفاق يحتاج إلى ضمانات صارمة وشركاء مراقبين قادرين على فرض التزام عملي.

التسلّح وتعدد مراكز القوى

انتشار السلاح، وتعدد الجهات المسلحة، إضافة إلى التدخلات الخارجية، كلها عناصر تضع الوساطة أمام مهمة معقدة.

غياب رؤية واضحة حول دمج القوات

إنهاء الحرب يستلزم معالجة مسألة القوى العسكرية داخل السودان، عبر رؤية مفصلة تضمن بناء مؤسسة وطنية واحدة.

الهواجس الشعبية

تعيش المجتمعات المحلية، خصوصا في دارفور، صدمة إنسانية عميقة. وهذا يفرض ضرورة إشراك ممثلين محليين في أي تسوية، مع الاعتراف بمعاناة الضحايا.

سيناريوهات محتملة: إلى أين يمكن أن تتجه الأمور؟

يرى محللون أن المبادرة قد تأخذ أحد ثلاثة مسارات:

هدنة مؤقتة تعبر نحو اتفاق أشمل إذا توافرت ضمانات دولية. ومسار إنساني موسّع يسبق أي تسوية سياسية. وضغط دولي متصاعد يجبر الأطراف على الجلوس لطاولة تفاوض تتضمّن حلولا جذرية.

وبينما تتشابك هذه المسارات، تبقى القوى الإقليمية والدولية أمام مسؤولية مباشرة: منع انزلاق السودان نحو فوضى مستدامة ستنعكس آثارها على المنطقة والعالم.

لحظة اختبار حقيقية

تعكس المبادرة السعودية تحوّلا في مزاج الإقليم والمجتمع الدولي تجاه الحرب في السودان. وهي لحظة اختبار سياسي وإنساني تتقاطع فيها مصالح الدول مع معاناة شعب يبحث عن استقرار طال انتظاره.

وتتوافق تحليلات الخبراء الثلاث، الشهري، حمّاد، شارلوت، على أن الظروف الحالية تحمل قدرا كبيرا من الفرص، رغم وجود عقبات حقيقية.

 وفي حال نجحت المبادرة في خلق مسار يوقف نزيف الدم، فسيمثل ذلك نقطة انعطاف حاسمة في تاريخ السودان الحديث، وفرصة قد لا تتكرر لإنقاذ ما تبقى من نسيجه الاجتماعي ومستقبله السياسي.

خالد الطوالبة
القدس العربي