Logo

"سليت سيفي"... الحوثية تستخدم الفن لخدمة الموت

 لم يعد الفن، خلال زمن تتزاحم فيه الأصوات وتختلط فيه الدوافع بالأنغام، مجرد ممارسة جمالية، بل غدا ساحة تتنازعها الأيديولوجيات وتجتهد فيها الجماعات المسلحة لتلوين رسائلها بموسيقى مألوفة تستدعي العاطفة قبل العقل. 

وفي خضم هذا الالتباس، تظهر أغنية "سليت سيفي" نموذجاً صارخاً على الكيفية التي يمكن فيها للحن جميل أن يتحول إلى أداة لتوجيه الوجدان نحو مسارات لا تمت إلى جوهره الإنساني بصلة.

تنطلق الحاجة من هنا إلى تأمل هذه الظاهرة بقدر من الهدوء والعمق، لفحص ما يحدث حين يستعار الفن ليخدم الموت، وكيف يمكن للذاكرة الجمالية أن تصبح جسراً غير مقصود يسهل عبور خطاب لم يخلق لها.

في الغالب تميل الجماعات السياسية، حين يشتد الصراع، إلى استثمار ما تبقى من اللغة والإيقاع كي تعوض نقص المعنى بقوة الصوت. وفي اليمن، لم يكن "الزامل" مجرد أثر تراثي بل أصبح وسيلة تعاد صياغتها لتلبية حاجات اللحظة،

 شد العزائم وتثبيت الولاءات وإعطاء المقاتل شعوراً بأن ما يفعله امتداد لتاريخ طويل من البطولة. هكذا انتقل الفن من مجال وجداني إلى وظيفة تتجاوز طبيعته.

ومع دخول اليمن كسائر العالم في عصر المنصات، تغير محيط هذا الفن. فالزامل الذي كان يقال في ساحات القبيلة، صار يظهر في شاشة هاتف صغيرة تحكمها خوارزميات لا تهتم بالسياق بقدر ما تهتم بما يثير التفاعل.

 وبذلك اكتسبت الأناشيد الحماسية قابلية مضاعفة التأثير، إذ تتجاور الذاكرة الشعبية مع آليات الانتشار السريع.
 
ضمن هذا المناخ المشار إليه أعلاه برزت أغنية "سليت سيفي في سبيل الله وأسرجت الجواد" كحال تكثف العلاقة بين الفن والتعبئة على نحو لا يمكن تجاهله. فالأغنية لا تخاطب المقاتل وحده، بل تضخ صورة متخيلة عن البطولة وتربطها بصورة الزعيم "السيد"، 

وتعيد تعريف "الغاية" باعتبارها أعلى من الكلفة البشرية. ينشأ هنا خطاب متزمت لا يقارب الحياة كقيمة، بل كمساحة اختبار للولاء.

انتشار الأغنية الواسع منذ بداية عام 2025 بدا في تصوري وكأنه يتجاوز طبيعتها الدعائية، إذ تسربت إلى فضاءات ترفيهية لا علاقة لها بسياقها الأصلي. 

لقد ظهرت ضمن مقاطع قصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي مثل "تيك توك" و"يوتيوب" و"إنستغرام" و"إكس" و"فيسبوك"، وكأنها موجة مكتفية بذاتها. يحدث ذلك لأن المنصات لا تفرق بين ما يحفز الرقص وما يحفز الحماسة القتالية، المهم فقط أن الجمهور يتوقف للحظة.

لكن خلف هذا الانتشار البريء شكلياً، تقف حقيقة تاريخ الأغنية. فقد صدرت عام 2020 أثناء هجوم الحوثيين على مأرب في محاولة بائسة لإسقاطها، بهدف تمجيد عبدالملك الحوثي ورفع معنويات مقاتليه.

 حينها لم يكن الهدف سوى تدعيم خطاب يقدم الحرب باعتبارها فعلاً مقدساً، ويمنح المقاتل شعوراً بأن سقوطه ليس مجرد حدث عادي أو عابر، بل حلقة من حلقات "الحق".

في الواقع يمكن ملاحظة أن العبارات التي ترد في الأغنية - مثل "جندي لأبو جبريل متجند مع رب العباد" - تظهر هذا الاندماج بين السياسي والديني حتى حد إلغاء المسافة بينهما (أبو جبريل هنا هو عبدالملك الحوثي). 

ثم يأتي البيت الذي يحصر الصراع بين "السنة" و"الشيعة"، "إما مع ثورة حسين وزيد أو باطل يزيد"، ليعيد إنتاج ثنائية مذهبية تستخدم كإطار تفسيري جاهز، يغني عن النقاش ويختزل الواقع في خط مستقيم لا يقبل التعرجات.

هنا تحديداً تبرز المفارقة المحيرة، كيف استطاعت أغنية ذات مضمون موجه، ومتشدد في رسائله أن تنتشر خارج الفضاء اليمني وخارج الدوائر المؤيدة للحوثية؟

 ما القوة التي سمحت لخطاب يمجد الموت أن يصل إلى مستخدمين دخلوا المنصة بحثاً عن ترفيه خفيف أو مجرد فضول لا أكثر ولا أقل؟

يقال إن الحوثيين يتقنون إنتاج المحتوى الجهادي بما يتناسب مع منطق المنصات، وهذا صحيح جزئياً. لكن ذلك وحده لا يكفي في اعتقادي لشرح اختراق الأغنية لدوائر لا علاقة لها بسياقها. 

ما حدث في تصوري ليس مجرد نجاح تقني، بل تداخل غير واعٍ بين الذاكرة الجمالية للجمهور وقدرة اللحن على تجاوز الكلمات.

فالبحث والتحقق يؤكدان أن لحن الأغنية هو محاكاة للحن أغنية شهيرة للفنان العظيم أبو بكر سالم بلفقيه "وأبوي أنا وأبوي من هذا الجميل". 

وهذا الاقتباس هو ما شكل جسر العبور. فالمستمع الذي تعلق بهذا اللحن في طفولته أو شبابه سيتجاوب معه تلقائياً، من دون أن ينتبه إلى ما جرى تحميله فوق هذا اللحن من معانٍ مغايرة تماماً.

لاحظوا معي من فضلكم أن الأغنية الأصل، بطابعها العاطفي الهادئ الشديد الجمال، تنتمي إلى ذاكرة ترتبط بالوداعة والحضور الإنساني، بالحب والأمل والجمال و"الطرف الكحيل" كما جاء في نص الأغنية، وتستعيد لحظة كان فيها اليمن بلداً يتنفس الفن لا الحرب.

في الواقع صوت الخالد أبو بكر سالم بلفقيه لم يكن مجرد أداء متميز آسر، بل رافعة غير مسبوقة لذائقة كاملة شكلت هوية مستقرة في وجدان اليمنيين والخليجيين والعرب على حد سواء.

وحين يُعاد استخدام هذا اللحن أو محاكاته ضمن خطاب قتالي، تتولد فجوة شعورية لا ينتبه إليها كثر. فهذا الامتزاج يخلق خلطاً بين إحساس مألوف وغاية مغايرة، فيتشكل نوع من "الإيهام الإنساني"، يظن المستمع أنه ينتمي إلى لحظة جمال،

 بينما يقوده اللحن إلى رسالة لا تنتمي لروح تلك اللحظة.

فضلاً عن ذلك، تكشف هذه الظاهرة عن صراع أعمق من الصراع السياسي نفسه، صراع على الوجدان قبل الوعي وعلى العادات الشعورية قبل القناعات الفكرية.

 فالجماعات المسلحة لا تكتفي بإقناع الفرد، بل تسعى لتعديل إحساسه بالعالم، عبر تطويع الرموز التي يعرفها بحيث تصبح خادمة لرؤية تفضل الموت على الحياة.

لكن هذا التوظيف للفن يظل في تصوري دليلاً على أن الجماعة، مهما بلغت قوتها، تحتاج إلى استعارة أشياء ليست من صلب خطابها.

 فالفن الحقيقي لا ينتج في ساحات الحرب، ولا يخلق لإضفاء شرعية على السلاح. وما تلجأ إليه الجماعة هنا ليس إنتاجاً أصيلاً، بل استخدام فج لأثر قديم كي تمرر خطاباً جديداً، ويا له من خطاب.

ولعل الجانب الإنساني الأبرز في الظاهرة هو أن اللحن على رغم محاولات تطويعه، بقي محتفظاً بشيء من صفائه. 

فالمفارقة تكشف عن أن الجمال لا يقبل بسهولة أن يختزل في وظيفة قسرية، إذ يذكرنا دائماً بأن الأصل واضح وأن التقليد مهما حاول يظل متوتراً، كصوت يرفع طبقة لا تناسبه.

وعند هذه النقطة كخلاصة يصبح الخيار رمزياً لكنه جوهري، بين لحن وُلد من قلب الحياة، ولحن أُعيد تشكيله ليبرر الموت. بين فن يطلب القرب وينعش الروح، وخطاب يستعير الفن ليبرر الفناء.

إن الموقف الإنساني هنا يتحدد على نحو جلي، ليس بين أغنيتين بل بين تصورين للعالم، أحدهما ينحاز للحياة والآخر يحاول أن يغطي العنف بقماشة لحن جميل.

في نهاية المطاف، لا تدور المسألة حول أغنية بعينها بقدر ما تتعلق بكيفية استخدام الفن لإعادة تشكيل الوعي في زمن مضطرب. 

فالتشابه بين اللحنين ليس مجرد حادثة موسيقية بل مرآة تكشف صراعاً بين رؤيتين للحياة، واحدة تؤمن بأن الجمال يولد ليغني الروح، وأخرى تستعيره لتبرير العنف. 

وما يظل ثابتاً في اعتقادي هو قدرة الإنسان على التمييز بين الأصل والتقليد، بين الفن الذي ينعش القلب والخطاب الذي يثقل الوعي.

وعليه يصبح الخيار أخلاقياً بقدر ما هو جمالياً، أن ننحاز إلى ما يحفظ الحياة لا إلى ما يجعلها وقوداً لصوت مرتفع يخفي هشاشة المعنى، ويقود إلى الموت.

سامي الكاف
 صحافي وكاتب يمني