شبح الحرب الأهلية يحوم في الولايات المتحدة

 ليس الوقت كأي لحظة في الماضي، إذ يتطلع الأميركيون اليوم بخوف إلى المستقبل، وقلق من شبح حرب أهلية، وهم يرون هذا الخطر يحوم فوق بلادهم بسبب الأزمة السياسية التي تشهدها الولايات المتحدة حالياً.

وتعود جذورها إلى مرحلة فوز الرئيس الحالي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بعد رفض غريمه المهزوم الرئيس السابق دونالد ترامب الاعتراف بالنتائج، وتعبئة أنصاره وتحريضهم على اقتحام مبنى الكونغرس في 6 من كانون الثاني/يناير عام 2021، لتبلغ ذروتها أخيراً مع الغارة التي شنها مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI على مقر إقامة ترامب في مارالاغو بولاية فلوريدا بحثاً عن ووثائق ومستندات سرية كان ترامب قد عمد إلى إخفائها.

خصوصاً أن من في الداخل الأميركي، من الحزب الجمهوري ومعه الجماعات اليمينية المتطرفة، يهيئون لها الظروف والأسباب، ويعدّون لها الأرضية الخصبة، وينفخون في النار طمعاً في إضرامها، لا سيما أنهم يعتبرونها خشبة الخلاص الوحيدة من إدارة بايدن وحكومته ودولتهم العميقة. 

ولكن ما مؤشرات الحرب الأهلية في أميركا؟ 
هناك مجموعة واسعة من الأصوات، بما فيها أصوات بعض الساسة الجمهوريين والديمقراطيين، والأكاديميين الذين يدرسون الصراع الأهلي، فضلاً عن المتطرفين على الضفة الأخرى يروّجون جميعاً الآن فكرة أن الحرب الأهلية باتت قريبة أو ضرورية.

والأهم أن هؤلاء جميعاً، يشيرون إلى عدد من الأدلة والوقائع والمعطيات التي تدعم رؤيتهم تجاه عدم استبعادهم وقوع حرب أهلية في أميركا، ويمكن تلخيصها بـ3 معطيات: 

1. إطلاق عاصفة من التهديدات شملت عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي، والقضاة، والمسؤولين المنتخبين، وأعضاء مجالس إدارة المدارس (لكونهم يخالفون نظرة الجمهوريين إلى تنشئة الطلاب)، فضلاً عن المشرفين على الانتخابات. 

2. إقامة معسكرات شبه عسكرية مغلقة يتدرّب فيها المتطرفون المدججون بالسلاح لمواجهة حكومتهم. 

3. نتائج استطلاعات الرأي التي تظهر أن وجود أميركيين يتوقعون صراعاً عنيفاً، وأن حرباً أهلية حقيقة قد تدق أبوابهم في أي لحظة، لاسيما مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية النصفية. 

عند النظر في نوعية الأصوات الأكاديمية التي تعمقت في قضية الحرب الأهلية الأميركية وأصحابها نجد في مقدّمهم ستيفن ماركي، مؤلف كتاب "الحرب الأهلية التالية: رسائل من المستقبل الأميركي" الذي قدم مقاربة، قال فيها إن تهديدات المتطرفين أصبحت أكثر وضوحاً وتحديداً، وأن خطابهم قد تسرّب إلى شريحة كبيرة جداً من الأميركيين وأثّر فيهم.

ويستدل على ذلك بما أقدمت عليه حكومة ولاية تكساس والحزب الجمهوري فيها، اللذان تحديا السلطة الفيدرالية، بعدما وافق آلاف الناشطين الجمهوريين إثر اجتماعهم في هيوستن (كبرى مدن ولاية تكساس) في حزيران/يونيو الماضي، خلال مؤتمر الحزب في الولاية، على قرار يرفض نتيجة الانتخابات الرئاسية لعام 2020، ويعلن بايدن "رئيساً بالنيابة"، فضلاً عن سعيهم لاستفتاء الناخبين بشأن الانفصال عن الولايات المتحدة.

ما يلفت أن ماركي، الروائي الكندي الأصل، الذي كان يقرع جرس الإنذار مما هو آتٍ على أميركا، تسارعت وتيرة تحذيراته أخيراً، وأصبحت أكثر إلحاحاً، بعدما رأى مجموعات صغيرة من المسلحين يتدرّبون على قتال عملاء الحكومة، وعلّق على هذا الأمر قائلاً "هذا النوع من الفوضى الذي أصفه يشبه الغضب على الإنترنت: يمكنك أن تعده تمثيلاً مسرحياً أو قد يكون خطراً جداً، ويمكن أن يكون متعة عطلة نهاية الأسبوع، أو الإعداد العسكري الفعلي.

يشارك ماركي في الرأي محللون آخرون، قالوا إن الضجيج الحالي مؤشر قوي إلى أن حرباً أهلية ساخنة - يرجح أن تشهد تفجيرات واغتيالات واعتداءات على المؤسسات الفيدرالية والمسؤولين- قد تكون قريبة.

وفي تقاطع مع أفكار ماركي، توقّع الكاتب المحافظ كورت شليشتر حرباً أهلية، وخلص في كتابه الجديد وعنوانه "سنعود: سقوط وصعود أميركا" أن "الولايات الزرقاء تواجه تحدياً، وأردف قائلاً من الجيد الاحتفاظ بالمدن، ولكن إذا كنت لا تحتفظ أيضاً بجميع الأراضي الريفية بين المدن، وكذلك الطرق المؤدية إلى الأماكن التي تحصل فيها على طعامك ووقودك، فلديك مشكلة حقيقية".

ومن الشخصيات الأميركية المعروفة أيضاً، التي لا تستبعد الحرب الأهلية الأميركية، روبرت رايش، وزير العمل في عهد الرئيس بيل كلينتون، الذي كان قد لفت إلى أن "الحرب الأهلية الأميركية الثانية تحدث فعلاً" واستطرد قائلاً خلال حديثه إلى صحيفة الغارديان، "لكنها ليست حرباً، بقدر ما هي نوع من الانفصال الحميد المشابه للمتزوجين غير السعداء الذين لا يريدون أن يمروا بصدمة الطلاق الرسمي".

المثير في الأمر، أن رايش لا يرجّح حصول تقسيم عنيف للبلاد، بل شيء "مشابه لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي - قرار متبادل ومتقطع للذهاب في طرق منفصلة في معظم الأشياء، مع الحفاظ على اتصال بشأن بعض الأشياء الكبيرة (مثل الدفاع الوطني والسياسة النقدية والحقوق المدنية والسياسية)".

وماذا عن الآراء التي تستبعد الحرب الأهلية؟ 
في مقابل هذه الفئة المتوجسة والقائلة بإمكان حدوث حرب أهلية، نجد جماعات أخرى تنفي هذا الخيار مثل رابطة مكافحة التشهير وغيرها من جماعات المراقبة الأميركية التي لا ترى هذا النوع من التخطيط المحدّد من قبل الميليشيات الخاصة والتجمعات عبر الإنترنت للمتطرفين بالوضوح نفسه الذي كان قائماً قبل تمرّد 6 كانون الثاني/يناير العام الماضي، وقبل مسيرة تفوق البيض في شارلوتسفيل عام 2017.

هذا الرأي يتبناه كذلك أورين سيغال، نائب رئيس مركز مكافحة التطرف، الذي أوضح في حديث إلى الإذاعة الوطنية الأميركية بالقول "لقد مررنا بهذا الأمر منذ فترة طويلة، ولا أرى الناس قد يجتمعون معاً في تنظيم متماسك مثل الذي رأيناه في السادس من كانون الثاني/ يناير". 

المحللون من كلتا الفئتين، سواء الذين يقولون إننا نتجه نحو حرب أهلية، وأولئك الذين يرون أن منظومة التهديد تقتصر إلى حد كبير على أشخاص منفردين، ومجموعات صغيرة غير منظمة، لا تشكّل أعمالها الخطرة والمشتتة حرباً أهلية هم يتفقون ولا يستبعدون معاً، إمكان حصول هجوم منظم وعنيف على الحكومة أو السلطات المحلية أو تلك التابعة للولايات (ولو محدودًا)، وحمل السلاح ضد نظرائهم الفيدراليين.

إضافة إلى هذا الانقسام الحاد حول ما إذا كانت سلسلة الهجمات الفردية والجماعات الصغيرة، يمكن أن تؤدي إلى صراع شبيه بالحرب يزعزع استقرار البلاد، إلا أن الخطر الأكبر الذي يلوح في الأفق، ويقضّ مضاجع الجانبين في نقاش الحرب الأهلية، هو أن الاتجاه الأكثر إثارة للقلق هو فقدان الثقة والأمل والشعور بالانتماء على نطاق واسع في مجتمع تضرر بشدة. 

ما مصدر إلهام المتحمسين للحرب الأهلية؟ 
في الحقيقة، يُرى ويليام بيرس، أستاذ الفيزياء الذي تحوّل إلى منظّر للنازيين الجدد، مصدر إلهام ومنبع أفكار القتل والتصفية والقضاء على الحكومة الأميركية، للمتطرّفين اليمينيين الأميركيين. 

 فقبل ربع قرن، وبعد تفجير المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما سيتي، عُثر في سيارة المهاجم تيموثي ماكفي الذي اتخذ رواية بيرس "يوميات تيرنر" وثيقة تخطيط له لشن حرب أهلية، على مقتطفات من الكتاب في سيارته عندما قتل 168 شخصاً وأصاب مئات آخرين ومعظم من الأطفال.

الكارثة لدى القادة الأميركيين الحاليين، أن بيرس، كان فخوراً جداً بشعبية كتابه بين المتعصبين البيض وغيرهم من المتطرفين، إذ إن هدفه وهدف أولئك الذين كان يأمل أن يقرأوا كتابه هو إطاحة الحكومة.

 ولهذا قال بيرس "الناس لا يستخدمون الكتاب كمخطّط، ولكن كمصدر إلهام". وأكّد أن "ليس لدي الوقت للكتابة للترفيه وحسب. إنما لشرح الأشياء للناس. أود أن أرى أميركا الشمالية قارة بيضاء فقط".

 وما يزيد الطين بلة لدى الأميركيين، أن لدى بيرس رؤية مدمّرة للنظام الأميركي، إذ أوضح أنه "إذا لم ندمّر النظام قبل أن يدمرنا -إذا لم نقطع هذا السرطان من لحمنا الحي- فسيموت جنسنا كله".

بيرس، الذي توفي عام 2002، كان قد تنبأ في كتابه بتآمر المتعصبين البيض لتفجير مقر مكتب التحقيقات الفيدرالي وإشعال حرب أوسع على الحكومة. وتوقع كذلك أن تتكرّر أعمال العنف الفردية، معتبراً أن "الإرهاب لا معنى له إلا إذا كان مستداماً.. وفي يوم من الأيام سيكون هناك إرهاب حقيقي ومنظم يجري وفقاً لخطة تهدف إلى إسقاط الحكومة.

ماذا عن حماسة ترامب والحزب الجمهوري للحرب الأهلية؟
طوال عقود، بقيت "يوميات تيرنر" لبيرس، نصاً يستخدمه المتطرفون العنيفون، ويظهر على نحو متكرر عبر الإنترنت في أحاديث المشاركين في هجوم 6 من كانون الثاني/يناير وأنصار الرئيس ترامب. 

ليس هذا فحسب، فقد أصبح الخطاب العدائي أيضاً جزءاً من حملات بعض الجمهوريين اليومية. وفي هذا الإطار كتبت لورا لومر، المرشحة الجمهورية في منطقة مجلس النواب الـ11 بولاية فلوريدا، التي كانت قد خسرت بفرق ضئيل في الانتخابات التمهيدية الأسبوع الماضي، على Telegram في 8 آب/أغسطس الماضي أن "الوقت قد حان لخلع القفازات.. إذا كنت أميركياً محباً للحرية، فعليك إزالة الكلمات اللائقة والكياسة من مفرداتك".

وبالمثل، غرد اليوتيوبر المحافظ والبودكاست ستيفن كراودر، يوم حدوث غارة FBI في مارالاغو، قائلاً إن "الغد هو الحرب". وأضاف "لقد حان الوقت للقتال من أجل كل بوصة مربعة" ثم كرّر كلامه في اليوم التالي، مؤكداً أنه الوقت لمكافحة النار بالنار، حان". كما كتب موقع النقاد المؤيد لترامب عبارات تصب في خانة التحريض مثل "هذا. يعني. الحرب".

فضلاً عن ذلك، تحدث الناس على منصات التواصل الاجتماعي المؤيدة لترامب، عن شراء الذخيرة والبحث عن مواجهة العملاء الفيدراليين. "حرب أهلية! التقطوا السلاح أيها الناس"، غرد أحد الغاضبين. 

كان مثل هذا الحديث أشبه بالدعامة الأساسية لسنوات ترامب. في الصيف الماضي، زعم النائب ماديسون كاوثورن وهو جمهوري من كارولاينا الشمالية، ومن الذين أنكروا نتائج الانتخابات الرئاسية، أن أنظمة الانتخابات الأميركية "مزورة"، مشدداً على أنها "ستؤدي إلى مكان واحد، وهو إراقة دماء"

حتى إن ترامب نفسه، الذي كان قد تحدث ضد تدريس نظرية العرق الناقدة في تجمع حاشد في كارولينا الجنوبية هذا الربيع، أشار إلى أن مصير أميركا "يعتمد في نهاية المطاف على استعداد مواطنيها للتخلي عن حياتهم للدفاع عن بلدهم، وعليهم القيام بذلك".

 وعلى المنوال نفسه، أكد أحد أبرز منتقدي ترامب في حزبه، النائب آدم كينزينغر (إلينوي)، في وقت سابق من هذا العام في برنامج "The View" على شبكة "إيه بي سي" أن الحرب الأهلية يمكن أن تندلع" وقال "علينا أن نحذر ونتحدّث عن ذلك حتى نتمكن من إدراك ذلك والقتال بقوة ضده".

مع أن كتاب بيرس لا يزال يلهم الجهات الفاعلة الفردية والمجموعات الصغيرة، إلا أن حربه الأوسع نطاقاً لم تقترب قط من أن تؤتي ثمارها بعد.

اليوم، "الحرب الأهلية" هي صرخة قوية، عكسها بعض الأميركيين في سلوكهم، بارتدائها على القمصان، وبعضهم الآخر يتدرّب عليها علناً بأسلحة هجومية، مثلما يفعل ابن القس، هيونغ جين مون، الذي يتولى رعاية الدورات التدريبية في مجمّعه في تكساس وبنسلفانيا من أجل حرب "وطنية" أخرى على "الدولة العميقة والكلام له. 

وماذا تقول استطلاعات الرأي عن احتمالات الحرب الأهلية؟
يعتقد عدد من الأميركيين أن حرباً أهلية حقيقية وعنيفة مقبلة. ففي استطلاع للرأي أجرته هذا الربيع جامعة كاليفورنيا في برنامج أبحاث الوقاية من العنف في ديفيس، قال الذين شملهم الاستطلاع بمعظمهم، إنهم يتوقّعون حرباً أهلية في السنوات القليلة المقبلة.

إضافة إلى ذلك، أظهر استطلاع آخر أجراه مركز المسح حول الحياة الأميركية، وهو مشروع غير حزبي تابع لمعهد أميركان إنتربرايز المحافظ، أن ما يزيد على ثلث الأميركيين يوافقون على أن "طريقة الحياة الأميركية التقليدية تختفي بسرعة كبيرة، حتى إننا قد نضطر إلى استخدام القوة لإنقاذها".

وكشفت نتائج استطلاع جديدة مقلقة نشرتها YouGov، وهي شركة رائدة في مجال أبحاث السوق، أن أربعة من بين كل 10 أميركيين، يعتقدون أن حرباً أهلية قد تكون محتملة في العقد المقبل. وتوضح يوغوف أن من بين أولئك الذين يقولون إنهم صوتوا لترامب عام 2020، أكثر من 50% يتوقعون أيضاً أن يزداد العنف السياسي في السنوات المقبلة.

أكثر من ذلك، يشير استطلاع آخر لـ"يوغوف"، كان قد أجري لمصلحة مجلة الإيكونوميست، إلى أن نحو 14 في المئة من المستطلَعين، قالوا إن الحرب الأهلية "محتملة جداً في غضون 10 سنين. فيما صرح 29 في المئة أنها "مرجّحة إلى حد ما". ولكن، بين ناخبي ترامب، كانت هذه الأرقام 19 في المئة، و34 في المئة، على التوالي، أو 53 في المئة في المجموع. ومن بين ناخبي بايدن، كان المجموع يزيد قليلاً على الثلث.

في الحصيلة، يشعر الأميركيون بأن الانقسامات بين الأمة تبرر أو تسبق صراعاً عنيفاً. 

الميادين - علي دريج