الصّين.. دروس في الإدارة وفنّ الحكم

يجمع كثيرون على نجاح الرئيس شي جين بينغ في نقل الصين خطوات إلى الأمام، أو على الأقل قدرته على تجاوز الظروف الصعبة التي مرت بها الصين خلال السنوات العشر الماضية على الصعيدين الداخلي والخارجي. 

لذا، لم يكن مستغرباً إعادة انتخابه أميناً عاماً للحزب الشيوعي الصيني، فكل التوقعات كانت تشير إلى ذلك، وخصوصاً أنه لم يعد هناك أي عائق أمامه بعد التعديلات الدستورية التي جرت في المؤتمر الوطني التاسع عشر 2017، إذ لم يعد هناك تحديد لعدد السنوات التي يمكن للرئيس البقاء فيها في منصبه. 

ولعلَّ الولاية الثانية للرئيس كانت الأخطر والأكثر تحدياً داخلياً وخارجياً. على الصعيد الداخلي، عانت الصين تباطؤاً في النمو وركوداً اقتصادياً تسببت به جائحة كوفيد 19 والإجراءات الحكومية الصارمة في تطبيق سياسة صفر كوفيد التي اعتمدتها الحكومة للحفاظ على مجتمع المليار ونصف المليار، فمن لديه عدد كهذا من السكان يصعب عليه المجازفة أو التهاون في تطبيق الإجراءت الصحية، وخصوصاً أن التركيبة السكانية تفرض نفسها، إذ يعاني المجتمع الصيني شيخوخة كبيرة، ما يجعله أكثر عرضة للمخاطر والتهديدات الصحية. 

كل ذلك ترافق مع حملة إعلامية غربية منظمة استهدفت شيطنة كل ما تقوم به الحكومة الصينية من إجراءات وتشويهها، في محاولة منها لتأليب الرأي العام الداخلي الصيني ضد حكومته أو على الأقل تشويه صورة الصين لدى الرأي العام العالمي الذي يتأثر، وبشكل كبير، بسيطرة الإعلام الغربي ودوره في تزييف الحقائق ونشر الأكاذيب؛ هذا الإعلام الذي لم يعد دوره مقتصراً على نقل الأخبار، بل أصبح صانع الخبر والمتحكّم في الترويج له وخلق القناعات لدى الجمهور عبر صناعة الأكاذيب وامتهان الخداع وسيلة لتحقيق ذلك.

بدأ الأمر قبيل حرب الخليج الثانية، حين بدأ الإعلام الغربي ينشر الصور التي تشير إلى حجم التلوث والتدمير الذي تسبب به العراق للبيئة في الكويت، ليكون ذلك مدخلاً للبدء بحرب تحرير الكويت عام 1991، التي كانت الطريق لترسيخ النظام الدولي الأحادي القطبية وإعلان "نهاية التاريخ" بسيطرة الليبرالية وقيمها على العالم.

نجحت الصين في تلك الفترة في تحاشي الغرور الأميركي والاستمرار في نهضتها والابتعاد عن الصدام وجذب الاستثمارات الأجنبية، والأهم من ذلك كلّه استيعاب "الدرس السوفياتي"، الذي يتمثل بأنَّ الاقتصاد هو الأساس لبناء القوة في عالم طغت عليه القيم المادية التي فرضتها الليبرالية المتوحشة، فبدأت ببناء قوتها الاقتصادية التي تعد أهم حامل لامتلاكها مقومات القوة الشاملة للدولة. 

واستوعبت تغير مفهوم القوة من القوة الصلبة إلى القوة الناعمة، بل إنَّها استبقت ذلك عبر تبنيها القوة الذكية التي مزجت بين القوتين الصلبة والناعمة، ما جعل معادلة تفكيك قوتها والمساس من هيبتها أمراً في غاية التعقيد، بل إنّه سيتسبب بالأذى للآخر، وبشكل أكبر ربما، فأصبح من يريد أن يقاتل بكين كمن يطلق النار على قدميه، وأصبحت الصين معضلة إستراتيجية للقوى الكبرى المسيطرة على العالم، بل والقوى الناشئة أيضاً.

اليوم، وبعد انعقاد المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني، وضعت بكين خطة طموحة لبناء الدولة، لتكون دولة عصرية بالاعتماد على التنمية الفائقة الجودة التي طرحها الرئيس شي. ولعلَّ أهمية المؤتمر تكمن في أنه المؤتمر الأول في المئوية الثانية للحزب، وهي المئوية التي ستركز على بناء دولة اشتراكية عصرية، فيما ركزت المئوية الأولى على بناء المجتمع والإنسان عبر التركيز على تخفيف الفقر والانتقال إلى مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل. 

ولعلَّ أول معالم الدولة القادمة هو بناء جيش عصري، وهم ما سيتم تحقيقه عام 2027 بمناسبة مرور 100 عام على تأسيس جيش التحرير الشعبي الصيني، وسيكون ذلك مع نهاية الولاية الثالثة للرئيس شي، أي أنَّ السنوات الخمس القادمة ستكون حاسمة في مجال استكمال بناء الجيش ليكون جيشاً احترافياً لا عقائدياً فقط.

أما التنمية، فإنها ستشهد نقلة نوعية في مجال التركيز على التنمية القائمة على الابتكار أو التنمية الفائقة الجودة، وهي التنمية التي تركّز على الاستثمار في مجال التكنولوجيا المتطورة وتقنية الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على تقنية 5G، إذ تمتلك بكين ميزة تنافسية في هذا المجال، وهو ما سيجعلها تركز على الجودة والنوع في صناعتها المستقبلية بعدما كانت تركز على الكمّ وعلى إغراق السوق العالمية بالمنتجات الصينية الرخيصة التي استطاعت من خلالها تحقيق نهضتها والقضاء على الفقر وتأمين فرص العمل والقضاء على البطالة. 

ويبقى التحدي الأمني هو الأكثر خطورة؛ فعلى الصعيد الخارجي، هناك تصعيد أميركي حيال بكين تجسد في استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي صدرت في الآونة الأخيرة، والتي اعتبرت الصين منافساً يجب العمل على احتوائه ومنع نموه وتطوره، ما يعني أن إدارة بايدن ستعمل في المرحلة المقبلة على تطويقها وزعزعة أمنها واستقرارها.

لذا، تراقب بكين باهتمام الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي. ومن المفيد حتماً بالنسبة إليها هزيمة الديمقراطيين وفوز الجمهوريين، إذ سيصبح الرئيس بايدن "بطة عرجاء"، وسيكون غير قادر على تمرير كل قراراته كما كان من قبل، وخصوصاً أن استطلاعات الرأي الأميركية تشير إلى أن الموقف الأميركي من الصين يتأثر بالانتماءات الحزبية، بمعنى أن الديمقراطيين هم الأشد عداء لبكين والأكثر حماساً للعمل على تطويقها وزعزعة استقرارها.

إن التحدي الأهم خارجياً بالنسبة إلى بكين هو قضية تايوان، التي لا تريدها أن تكون خاصرة رخوة قد تفرض عليها حرباً لا تريدها الآن، إدراكاً منها بأن الوقت يصب في مصلحتها، وأنَّ العمل عليه هو مكسب صلب يجب التركيز عليه.

لذا، استطاعت خلال المرحلة الماضية تحاشي الدخول في صراع في تايوان ومنطقة بحر الصين الجنوبي، وتجاوزت الأزمة الخطرة التي تمثلت بزيارة نانسي بيلوسي، رئيس مجلس النواب الأميركي، للجزيرة.

واليوم، بعد انعقاد المؤتمر العشرين للحزب وتضمين الحق في استرجاع الجزيرة للوطن الأم في الدستور، انطلاقاً من أن ذلك سيكون الطريق لإعلان نهاية الحرب الأهلية وتداعياتها، يمضي الرئيس شي بقوة وحزم في العمل على إنهاء هذا الملف سلمياً لو استطاع ذلك، أو باستخدام القوة لو اقتضى الأمر ذلك، وهو ما تم إعلانه صراحة.

لقد كان لافتاً وجود أعداد كبيرة من التكنوقراط والعلماء والخبراء كممثلين في المؤتمر، وكذلك العلماء الذين كان لهم دور في اكتشاف اللقاحات لكوفيد 19، والأطباء الذين كانوا في الصفوف الأمامية، وخبراء الفضاء والتطوير التكنولوجي، وهو ما يعكس تحولاً كبيراً في رؤية الحزب الشيوعي الصيني، الذي بدأ ينتقل من التركيز على الأيديولوجيا فقط إلى التركيز على التقنية والتكنولوجيا والتطور العلمي أيضاً، لتنتقل الصين في المستقبل إلى دولة تحكمها التكنولوجيا بعدما قضت سنوات كانت الأيديولوجيا فيها هي الأساس في بناء الدولة والمجتمع، وهو ما يعكس قدرة القيادة الصينية على قراءة المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية والعمل على تلافي تحدياتها أو الاستثمار فيها لو أمكن ذلك. 

هذه الطموحات لن تسير في طريق معبَّدة بالورود بكل تأكيد، وستكون هناك صعوبات وتحديات، لعل التغلب عليها هو المفتاح لنجاح الصين في الوصول إلى بناء الدولة الاشتراكية الحديثة، التي ستكون بمنزلة حدث استثنائي يجب أن يتحقق خلال الولاية الرئاسية الثالثة (الاستثنائية) التي كرست الرئيس شي زعيماً جديداً في الصين، وأدرجت أفكاره كمصدر من المصادر الفكرية والأدبيات التي يستند إليها الحزب الشيوعي الصيني في معالجته قضايا بناء الدولة وتطوير المجتمع وتطبيق الاشتراكية ذات الخصائص الصينية.

إنَّ ما يميز الرؤية الاستراتيجية الصينية لبناء الدولة هو وضع برنامج زمني يجب العمل على تطبيقه وتحقيق النتائج المرجوة وفقاً لما هو مرسوم، مع أخذ رمزية التاريخ بعين الاعتبار، فبناء الجيش يجب أن يتحقق عام 2027 عند الاحتفال بمرور مئة عام على تأسيسه، وقبل انتهاء الولاية الثالثة للرئيس، وعودة تايوان يجب أن تكون قبل عام 2049، وهي الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. هذا يعيدنا إلى الرئيس المؤسّس ماو تسي تونغ؛ فحين سئل عن عودة تايوان، قال إنها ستعود حتماً. وعندما سئل: متى؟ قال: ربما يحتاج ذلك إلى مئة عام، لكنها ستعود حتماً. 

هذا الكلام يدل على دقة التخطيط ومدى واقعيته واقترابه من التحقق. لذا، باتت الصين اليوم تقيس الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة بالدقائق والساعات، لا بالأشهر والسنوات. 

لكلّ تلك المعطيات، ستكون الولاية الرئاسية القادمة للرئيس شي مفصلية في تاريخ الصين الحديث، ويبقى السؤال: هل سيكون العقد القادم عقد بناء الدولة الوطنية المنشودة، التي سيكون أول متطلباتها عودة تايوان إلى الوطن الأم، عبر تطبيق شعار "دولة واحدة ونظامين"، على غرار ما حدث في هونغ كونغ وماكاو؟ وهل ستنجح بكين في العودة إلى الانفتاح على العالم والتخفيف من سياسة صفر كوفيد بعدما تمكنت من السيطرة على الوباء وإعطاء اللقاحات لكل أفراد المجتمع أو ستكون التحديات أكبر من القدرة على الاستجابة لها، وبالتالي الانخراط في تجاذبات إقليمية ودولية قد تكون لها انعكاسات سلبية على المكانة المستقبلية لبكين وإعادة تموضعها في الساحة الدولية؟ 

شاهر الشاهر
أستاذ الدراسات الدولية في جامعة صن يات سين- الصين.