هل يرجع العالم قريبا إلى التعامل بالذهب؟

قال جون إكستر (1910-2006) عالم الاقتصاد والمسؤول المصرفي المركزي إننا «نعيش عصر النقود الورقية غير القابلة للاسترداد - وهذه حالة غير مسبوقة في التاريخ».

لقد مرت البنوك المركزية في العالم بحمى لشراء الذهب. فبلغت مشتريات الذهب خلال العالم الحالي 673 طنا متريا، وذلك يفوق إجمالي المشتريات في أي عام كامل منذ 1967. وحتى وقت قريب، كان الكثيرون في عالم المال يعدون الذهب من مخلفات الماضي «البربرية».

فما سر تجدد الاهتمام بالذهب؟ الإجابة المختصرة هي أن العالم غارق في بحر من الدين تجاوز حاجز الـ300 تريليون دولار. ويعتقد خبراء الاقتصاد الكلي المستقلون من أمثال لوك جرومين وبرينت جونسن أن الدين العالمي وصل إلى مستويات حرجة ويتنبأون بإعادة ضبط مالي مكلفة ومؤلمة للغاية.

يوضح هرم إكستر -الذي يحمل اسم مخترعه جون إكستر- أن الدين العالمي يمس الجميع. فهو يشمل المعاشات والأمن الاجتماع والإيداعات البنكية وقدرة البلاد ذاتها على الوفاء بالتزاماتها. وقد استغلت الحكومات بنوكها المركزية لتصل بنا إلى ما قد يكون الانهيار النقدي الكبير.

تطورت البنوك المركزية من متاجر الذهب في أوربا. فقد كان الصاغة يبيعون العملات الذهبية والحلي، ويوفرون لعملائهم أيضا خدمة القباء، أي أن يودع الناس ذهبهم لديهم، فكانت بنوك الذهب تلك تمنحهم «أوراقا بنكية، أو بنك نوتس» كسندات تثبت الملكية.

وكانت «الأوراق البنكية» تلك تستبقى في البيوت لكنها أيضا كانت تستعمل كأوراق نقدية لتبادل السلع. فقد كان بوسع حامل الورقة البنكية أن يشتري بها شحنة سفينة من الخشب. وكان بوسع البائع أن يحصّل ذهبه من البنك بالورقة البنكية التي يحملها أو يستعملها في إبرام صفقة أخرى.

كانت الورقة البنكية وسيلة للتمييز بين «ما هو ملك لي وما هو ملك لك». لكن بنوك الذهب، القابعة على ودائع ذهبية خاملة تخص عملاءها، بدأت في طمس الخط الفاصل بين ما هو ملك لها وما ليس ملكا لها.

مستغلة سمعتها بوصفها حراس الذهب، بدأت البنوك تصدر أوراقا بنكية للمقترضين بما يزيد عن ممتلكاتهم الذهبية الفعلية. (والبنوك المركزية الحديثة تفعل رقميا مثل ذلك وتطلق عليه «العمل البنكي الاحتياطي الجزئي»).

فقد كان يمكن أن يمتلك بنك الذهب النمطي ما يعادل ألف دولار من الذهب ويحتوي ما يعادل تسعة آلاف دولار من ودائع عملائه الذهبية، لكنه يصدر أوراقا بنكية بقيمة اسمية تبلغ مائة ألف دولار، أي عشرة أمثال احتياطياته الذهبية الفعلية. وكان هذا يتيح لبنوك الذهب أن تجني فائدة على أصل غير موجود.

سوف تفضي ممارسات انتهاك الثقة هذه إلى أولى حالات «الذعر المصرفي» [bank runs]. إذ تنتشر الشائعات في المدينة حول بنك مفرط في إصدار الأوراق البنكية فيهرع العملاء إلى البنك لسحب ذهبهم قبل أن يختفي.

ولما شاع الذعر المصرفي وبات يهدد المجتمع، جمعت البنوك بين مواردها، حتى إذا ما تعرض بنك لذعر مصرفي، تدخلت البنوك الأخرى بذهبها لمنع انتشار الذعر.

إغلاق نافذة

كانت المتاجر التي تحولت إلى بنوك هي بدايات البنوك المركزية. واستوجب تنامي التبادل التجاري الدولي إدارة أفضل للنظام المالي، فتولت البنوك المركزية مهمة إدارة النظام النقدي.

تأسس بنك إنجلترا مبكرا في القرن السابع عشر، لكن وظيفته الأساسية كانت تمويل الحرب ضد منافستها الكولونيالية فرنسا. صارت بريطانيا على القمة، وأصبح الجنيه الاسترليني عملة الإمبراطورية البريطانية العالمية.

في القرن العشرين، كان لكل بلد في العالم تقريبا بنكه المركزي. أسست الولايات المتحدة بنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 1913. وأقام الجيش الأمريكي قبو فورت نوكس -وهو أكبر قبو في العالم- في كنتاكي سنة 1918. وامتلكت الولايات المتحدة أضخم احتياطي من الذهب في العالم.

ونتقدم بسرعة إلى اتفاقية بريتن وودز سنة 1944 التي ابتكرت النظام النقدي في ما بعد الحرب العالمية وجعلت الدولار الأمريكي فعليا عملة العالم الاحتياطية. صار سعر الذهب يتحدد بالدولار، وارتبطت العملات الأخرى بالدولار بسعر صرف ثابت. وبتحول الدولار إلى المعيار، باتت كل العملات في العالم مستندة ضمنيا إلى الذهب.

استمرت بريتن وودز حتى عام 1971 عندما أعلن الريس الأمريكي ريتشارد نيكسون أن الاحتياطي الفيدرالي سوف يتوقف عن استرداد الذهب بالدولار. لم يعد الدولار مدعوما بالذهب وإنما بالثقة وبقوة اقتصاد الولايات المتحدة.

بعد إغلاق «نافذة الذهب»، سرعان ما راكمت الولايات المتحدة الدين. وخلال ستينيات القرن العشرين، أنفقت حكومة الولايات المتحدة مبالغ نقدية كبيرة على «السلاح والزبد» (أي حرب فيتنام وبرامج تقليص الفقر). وبعد عام 1971، حينما أغلقت الولايات المتحدة نافذة الذهب، خرجت العجوزات والدين المحلي تدريجيا عن السيطرة.

لم تعد الحكومة الأمريكية مقيدة بحدود حيازتها الذهبية، فأنفقت بحرية على برامج إنقاذ الشركات، والبنية الأساسية، والحروب الخارجية، وحزم الحوافز الاقتصادية المتكررة. وتصدر حكومة الولايات المتحدة الدين لتمويل عجز الإنفاق. ويشتري الاحتياطي الفيدرالي الدين ويبيعه للجمهور في شكل سندات خزانة. ويحصل مشترو الدين على فوائد تدفعها الحكومة.

طوال عقود، اعتبر المستثمرون السندات وسندات الخزانة «في جودة الذهب». وكان الدين الحكومي يدر عائدات معتدلة لكنها مستقرة. وتشكل سندات الخزانة الأمريكية قرابة 40% من محفظة المؤسسات الاستثمارية ذات الالتزامات طويلة الأجل، من قبيل صناديق التقاعد.

بعد أزمة 2008 المالية، حينما أنفقت الحكومة الأمريكية مئات المليارات لإنقاذ بنوك وول ستريت التي أفرطت في الدين، بدأ مستثمرو سندات الخزانة يتساءلون عما لو أن الولايات المتحدة سوف تصدر المزيد من الدين كلما وقعت أزمة.

في 2020، لتخفيف الأثر الاقتصادي لأزمة كوفيد، أنفقت حكومة الولايات المتحدة خمسة تريليونات دولار، وذلك بحساب الدولارات الحقيقية أكثر مما أنفقته على الحرب العالمية الثانية. وقارن الاقتصاديون ذلك بالتمويل في زمن الحرب.

بدا أنه ما من حدود لكمِّ ما يمكن أن تقترضه الولايات المتحدة. ففي الخمسين عاما المنصرمة منذ إغلاق نيكسون النافذة الذهبية، تزايد الدين الأمريكي من 371 مليار دولار (35% من إجمالي الناتج المحلي) إلى 31 تريليون دولار (126% من إجمالي الناتج المحلي). في العام الحالي تنبأ مكتب الموازنة في الكونجرس الأمريكي بأن إجمالي صافي تكلفة الفائدة السنوية سوف يبلغ 399 مليار دولار.

بعيدا عن شراء الحكومة للدين وبيعه، يحدد الاحتياطي الفيدرالي أيضا أسعار الفائدة، فقلص أسعار الفائدة إلى قرابة الصفر لتحفيز التعافي الاقتصادي.

كانت النتيجة تضخما تدريجيا لأسعار الأصول، وشمل ذلك كل شيء من العقارات إلى الأسهم إلى مجموعات المقتنيات الفنية. وتكلم خبراء الاقتصاد عن

«فقاعة كل شيء». وهم يعرِّفون الفقاعة بأنها الظرف الذي تتجاوز فيه الأسعار قيمة الأصل الأساسية.

بل إن الأموال الرخيصة رفعت من قيم العملات الرقمية وغيرها من «الأصول الرقمية». أعاد المستهلكون تقييم منازلهم بأسعار فائدة منخفضة تاريخيا لشراء بيتكوين، بما رفع سعرها إلى 65 ألف دولار.

نظرية النقد الحديثة

لم تكن الولايات المتحدة منفردة في مراكمة مستويات تاريخية من الدين. فأغلب بلاد مجموعة السبعة تفوق فيها معدلات الدين إلى إجمالي الناتج المحلي 100%، أي قرابة ضعف ما يراه الخبراء النقديون سلوكا قابلا للدوام. ويبدو أن جميع هذه البلاد تختبر حدود نظرية النقد الحديثة.

والبنوك المركزية تخترع النقود من العدم. فحينما تحتاج الحكومة إلى اقتراض مال لأن عوائدها لا تكفي لإنفاقها، فإنها تقترض النقود من البنك المركزي. والبنك المركزي يضيف الدين في ميزانيته إلى جانب الأصول، ويبيع الدين على هيئة سندات أو سندات خزانة للمستثمرين، ويحصِّل الفائدة.

لا تختلف هذه العملية عما كان يفعله الصاغة القدامى حين كانوا يصدرون الأوراق البنكية بناء على ذهب غير موجود لديهم. ويفترض المستثمرون أن البنك المركزي سوف يدفع الفائدة ويرد رأس المال عند استحقاق السندات.

تزعم نظرية النقد الحديثة أن البلاد القادرة على طبع نقودها لا يمكن أن تفلس. فبوسعها دائما أن تطبع المزيد من النقود لدفع العجز في الإنفاق. ولو كانت تلك هي الحالة، فإن البلد ذا العملة الورقية قادر ببساطة على طبع المال الكافي ليصبح كل مواطنيه مليونيرات. والنظرية تفترض أنه سوف يوجد دائما مشترون للدين الحكومي.

لولا أن شروخا باتت ظاهرة في النظام. فقد مضت اليابان بنظرية النقد الحديثة إلى أبعد من أي بلد آخر. إذ يبلغ دينها المحلي 300% من إجمالي ناتجها الوطني. ويواجه بنك اليابان الآن مشكلات في العثور على مشترين للدين الحكومي، بما يرغمه على إبقاء الدين الذي تصدره الحكومة اليابانية في الموازنة. وموازنة بنك اليابان تتجاوز كثيرا إجمال الناتج الوطني في اليابان.

وليست بريطانيا بأفضل حالا. ففي سبتمبر، اقترحت حكومة المملكة المتحدة زيادة في الاقتراض لدفع تخفيضات الأثرياء الضريبية. وتخوفا من عدم قدرة الحكومة على تحمّل ديونها، أهمل المستثمرون السندات الحكومية (السندات الذهبية) وتراجع الجنيه أمام الدولار، أي العملة القياسية العالمية.

تسبب الإفراط في طبع النقود في تضخم نقدي في النظام المالي العالمي. وأضافت أزمة كوفيد إلى المشكلة. وأدى اضطراب سلاسل التوريد إلى تضخم في الأسعار، وبلغ التضخم الحقيقي في الولايات المتحدة رقما مزدوجا، بما أرغم الولايات المتحدة على رفع أسعار الفائدة.

حينما ترفع الولايات المتحدة أسعار الفائدة إلى 4% بينما أسعار الفائدة في منطقة اليورو واليابان تقارب الصفر، يبيع المستثمرون اليورو والجنيه والين لشراء الدولار. ويطلق خبير الاقتصاد الكلي برينت جونسن على هذا نظرية الـ «ميلكشيك». إذ تفيض الدولارات على الاقتصاد الأمريكي، بما يزيد من التضخم. وإذا لم يتيسر تخفيض التضخم، تفقد جميع العملات الورقية قدرتها الشرائية. فالدولار الأمريكي هو «آخر الواقفين على أقدامهم».

لقد أظهرت اليابان والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة أن فقدان الثقة في الدين الحكومي يمكن أن يقود إلى فقدان الثقة في العملة. والاضطراب الأخير في سوق السندات الأمريكية يوحي إلى أن الولايات المتحدة، برغم أنها العملة الاحتياطية في العالم، ليست محصنة من مثل هذه الديناميكيات التضخمية.

في حال فقدان العالم الثقة في الدولار، تصبح إعادة الضبط المالي حتما لا مهرب منه. إذ سيفقد العالم مرساته المالية. وهذا يفسر أن البنوك المركزية في العالم تختزن الذهب. فالذهب، خلافا للنقود الورقية والسندات والأسهم، يفتقر إلى مخاطر الطرف المقابل. وعلى حد تعبير المصرفي الأسطوري جيه بي مورجان «الذهب نقود، وما عداه ائتمان».

* جان كريكن مراسل ياباني سابق لوسائل إعلام مختلفة، ومدير تحرير سابق لـ(آسيا 2000) في هونج كونج، ومؤلف كتاب «ليبنتز وأينشتين الصين».

 - صحيفة عُمان العمانية  ترجمة - أحمد شافعي .