حروب عالمية صغيرة

خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس الأميركي جو بايدن مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قال الرئيس بايدن إن أكثر من 50 دولة قدمت الدبابات وذخائر المدفعية والصواريخ ومليارات الدولارات لدعم أوكرانيا. 

في الحرب العالمية الأولى شاركت 70 دولة، وفي الحرب العالمية الثانية شاركت 60 دولة. وفي التحالف الدولي الذي غزا العراق شاركت 38 دولة تصدّرتها الولايات المتحدة وبريطانيا، وشاركت 20 دولة في غزو ليبيا تصدّرتها الولايات المتحدة وفرنسا، وبشكل أقل بريطانيا وكندا، أما سوريا فاستقبلت إرهابيين أجانب من 80 دولة، وشاركت في التحالف الدولي الذي قصف أراضيها ودمّر بعض مدنها، مثل مدينة الرقة، جيوش وطائرات من 20 دولة. لماذا لم تُسَمَّ هذه الحروب بأنها عالمية؟

يرى البعض أن عالمية الحروب لا تتعلق بعدد الدول المشاركة فيها، ولكن بالمساحة الجغرافية التي تغطيها هذه الحروب، وأن المشاركة الدولية في الحروب الحديثة تكون عادة رمزية، الهدف منها تأكيد تماسك الموقف الدولي، فلا يمكن اعتبار مشاركة بولندا في غزو العراق بنحو 154 جندياً مشابهاً لمشاركة جيشها وحجم خسائرها في الحرب العالمية الثانية. هذا الجدل يبدو منطقياً ومتماسكاً، على الأقل ظاهرياً.

في العمق، لا بد أن نلاحظ أن كل الحروب العالمية الكبرى والصغرى تُخاض على أراضي العالم القديم (آسيا وأوروبا وأفريقيا)، وتقتصر مشاركة العالم الجديد فيها على إرسال قوات عسكرية ودعم لوجيستي وحصد المكاسب النهائية. كما يمكن أن نلاحظ أن أي محاولة لنقل المعارك إلى أراضي العالم الجديد تنتهي عادة بكارثة أو سلسلة من الكوارث التي تصيب الإنسانية.

عندما ضربت اليابان ميناء بيرل هاربر كانت النتيجة إسقاط قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي، وعندما ضرب تنظيم "القاعدة" أبراج نيويورك كانت النتيجة "الحرب على الإرهاب" التي دمرت عدة دول وقتلت وشردت عشرات الملايين.

الملاحظة المهمة الثانية أن كل الحروب التي تأخذ بعداً عالمياً، تكون في جوهرها حروباً رأسمالية، الهدف منها فرض شروط الرأسمالية ومصالحها على الأمم والشعوب، ولو كان ثمن ذلك تدمير الدول وتقسيمها وتشريد شعوبها. 

لقد أدركت ثورة أكتوبر الاشتراكية (الثورة البلشفية) هذه الحقيقة، وهو ما دفع الاتحاد السوفياتي إلى الانسحاب من الحرب العالمية الأولى عام 1918 والقبول بتقديم تنازلات مهمة وقاسية بموجب معاهدة برست – ليتوفيسك.

اليوم، إذا نظرنا إلى حروب العالم سنجد الرأسمالية وجيوشها طرفاً في كل حرب. إن لم يكن الخصم هو الاشتراكية، فقد أصبح من الدول الساعية إلى كسر التبعية والاستقلال بإرادتها السياسية والاقتصادية، أو ما نصطلح على تسميته بالأنظمة الوطنية.

أصل كل الحروب القائمة في العالم اليوم ما يسمى "الحرب على الإرهاب"، وهي الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأميركية، التي تنفرد بتحديد من هو الإرهابي ومن هي الدول الداعمة للإرهاب، وبحق شن الحرب على التنظيمات والدول المتهمة من دون تحديد النطاق الجغرافي، أي أن العالم من أقصاه إلى أقصاه ساحة لهذه الحرب، فهي بحسب أصحاب نظرية العلاقة بين عالمية الحروب والجغرافيا، حرب عالمية بامتياز.

من مفارقات الحرب على الإرهاب أننا لو أجرينا إحصائية تتعلق بأكثر الدول تعرضاً للعمليات الإرهابية، فإن سوريا والعراق وإيران وروسيا ونيجيريا سوف تتصدر القائمة. ثلاث من هذه الدول مصنفة أميركياً بأنها دول راعية للإرهاب (سوريا وإيران وروسيا)، وتتعرض أراضيها للمؤامرات والاحتلال وعمليات الاغتيال والحصار والعقوبات من قبل الولايات المتحدة الأميركية، التي يمكن أن تتذيل قائمة الدول التي تعرضت لعمليات إرهابية.

المفارقة الأخرى أن الولايات المتحدة متهمة من وسائل إعلامها، وباعتراف مسؤوليها أمام لجانها البرلمانية، أنها تساعد التنظيمات الإرهابية من القاعدة وحتى أصغر فصيل مسلح يقاتل في سوريا أو العراق. كما تقود الولايات المتحدة التحالف الداعم للقوميين النازيين (كتائب آزوف) في أوكرانيا.

في تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" الصادر بتاريخ 26 تشرين الأول/أكتوبر 2022 تحت عنوان "توقفوا عن خوض الحروب العمياء"، يلاحظ معدّو التقرير أنه ومنذ إعلان "الحرب على الإرهاب" عام 2011 حدث خلل دستوري داخل الولايات المتحدة، إذ تراجع دور السلطة التشريعية المنوط بها دستورياً إعلان حالة الحرب، وتزايد دور السلطة التنفيذية الذي كان دوراً محصوراً في حالات الدفاع عن النفس.

كان الرؤساء الأميركيون قد تجاوزوا النص الدستوري في حروب كوريا وفيتنام وكمبوديا، لكن الكونغرس عاد لوضع المزيد من القيود من خلال "قانون سلطات الحرب 1973" الذي يجبر الرئيس الأميركي على إيقاف العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات الأميركية من دون إعلان حالة الحرب خلال 60 يوماً من إطلاقها.

لقد ضرب الرؤساء الأميركيون بعرض الحائط هذه المحددات الدستورية. وفي الوقت نفسه، لم ترتفع الأصوات داخل مجلس النواب أو الشيوخ الأميركي مطالبة بالالتزام بالدستور والقوانين، والسبب، كما يراه تقرير مجموعة الأزمات، أن الخسائر البشرية الأميركية محدودة جداً، وأن هذه الحروب تنعكس إيجاباً على الاقتصاد الأميركي، وخصوصاً كارتيلات الطاقة وبيع الأسلحة، على عكس حرب فيتنام، مثلاً، التي كانت الخسائر البشرية الأميركية فيها كبيرة والفوائد الاقتصادية محدودة.

ما يجمع بين الحروب الرأسمالية الكبيرة والصغيرة أنها تشير بوضوح إلى أن الرأسمالية لا تمتلك وسيلة لفرض مصالحها على العالم إلا بالحرب واستعمال القوة الغاشمة، بما ذلك اللجوء إلى الإبادة الجماعية، وأن مصالح الرأسمالية واحدة بغض النظر عن اسم الدولة أو موقعها الجغرافي أو الصورة التي تحاول تصديرها إلى العالم.

بعبارة أخرى، إن مصالح الولايات المتحدة الأميركية تتطابق مع مصالح الدول الإسكندنافية، والدول مدعية الحياد مثل سويسرا وكتائب "آزوف" النازية التي تحكم أوكرانيا.

في مواجهة هذه الحروب العالمية، لا بد من جبهة مقاومة عالمية؛ جبهة تعلن رفضها للفكرة الرأسمالية وتجلياتها الاقتصادية والسياسية؛ جبهة تحسم خياراتها الاقتصادية وتعلن رفضها الارتهان لشروط اقتصاد السوق، واعتماد الخيارات الوطنية محلياً، وخلق سوق مقاوم عالمياً. علينا عدم مجاملة الرأسمالية التي تخوض الحرب علينا بكامل قوتها، وأن نعلن أننا سنقاوم إمبراطورية الشر الرأسمالية بكامل قوتنا.

عماد الحطبة - كاتب سياسي أردني