الرجل المريض للألفية الثالثة : الوطن العربي

ان تعدد وتمدد الصراعات السياسية والطائفية والمذهبية والتي اتخذت في بعض البلدان العربية شكلاً عسكرياً وغياب التنمية العادلة وفشل منظومات التعليم وتراجع القدرات الاقتصادية وتمدد الفقر، إضافة الى تعدد الجمعيات والفرق الممولة من البترودولار والتي تدور في فلك العدو الصهيو-أمريكي الرجعي العربي، قد ساهم في ادخال العديد من الأقطار العربية مرحلة من التفكك والتشتت شملت اغلب بناها الثقافية والتنظيمية وخلق حالةً من اليأس والإنهزامية، (قبل وبعد ما عرف بالربيع العربي)، وهو ما دفع بأجزاءٍ واسعة من الشارع العربي الى أحضان الرجعيّة بمختلف تشكيلاتها الدينية والمذهبية والطائفية. 
فالدارس لحالة البلدان العربية اليوم وأوضاع غالبية سكّانها، يلاحظ التأثير المدمّر للحروب والغزو الخارجي التي تغطي معظم الساحة العربية، والتي شملت كلاً من العراق (منذ الثمانينات من القرن الماضي)، وليبيا واليمن وسوريا، فهجر أهلها وتدمّرت مواردها، وفقدت الكثير مما تم إنجازه على مدى السنوات الطويلة التي عقبت استقلال هذه الدول. 
ولئن كان التدمير والتخريب والقتل نتيجة طبيعية للحروب، فان العجيب في الامر هو أنّ اغلب الدّول العربية نفسها، قد اوصلت مجتمعاتها الى درجةٍ من التدمير والانهيار لا تختلف كثيراً عن تلك التي ضربتها الصراعات العسكرية الكبرى مثل الحرب العالمية الثانية. وهذا التدمير بشكليه المادي والمعنوي يلخص ويختصر التاريخ السياسي العربي في العقود الثلاثة او الأربعة الماضية، فالحروب العسكرية المباشرة أو تحكم نخب نيوليبرالية فاسدة وتابعة للخارج، هما الوجهان لهذه العملة التي سادت وتسود العالم العربي، والتي أدت الى نتيجة مفجعة هي تدمير المجتمعات من الدّاخل وسلبها سيادتها وإعادة تشكيلها طبقا لما يريده الطرف المهيمن سواء كان داخليا او خارجيا. فالاصلاحات الليبرالية التي اعتمدتها معظم البلدان العربية منذ السبعينات من القرن الماضي اهدرت القدرات الانتاجية وفقرت الشعوب، وسهلت غرق وانهيار هذه البلدان خصوصا منذ 2011 وظهور ما عرف بالربيع العربي والتبشير بعصر الديمقراطية.
ويتفق اغلب المحللين للتاريخ الحديث للدول العربية ان أزمة غالبية الدول العربية بدأت  اثر الاستقلال، فقد حكمت «الجمهوريات» العربية اما نخبٌ عسكرية او برجوازية او بتحالف بينهما. وهذا التحالف السياسي حظي في البداية بتأييد فئات واسعة من الشعب بسبب تطبيقه للاشتراكية والتأميم (في بعض الدول) ودعوته للوحدة العربية ومواجهة الغرب واسرائيل. 
لكن منذ أواخر السبعينيات، وبسبب مزيجٍ من الهزائم العسكرية وانتعاش المعسكر الغربي وأفول الاتحاد السوفياتي، بدا تحالف الحكّام مع النخب التجارية الجديدة واستبدلت خطط النمو الصناعي ومشاريع التنمية بنشاطات مالية وعقاريّة، كان من نتائجها انهزام المشروع الوطني الذي رفعته دولة الاستقلال والذي شكل المحرك الأساسي للحياة السياسية والاقتصادية وحتى العلمية لهذه البلدان المستقلة حديثاً، فكانت الهزيمة الأيديولوجية للنخبة الحاكمة والتي خلقت ثقافة جديدة بين النّخب تعتبر أن الصّدام مع دولة حديثة ونووية كاسرائيل أو تحدّي الغرب المتفوّق وهم يجب التخلص منه، وأصبحت تنادي بالواقعية وفصلت بين مسار التنمية ومسار الأمن والاستقلال، فكان ان خسرت الاثنين معا.
كما عرفت هذه الفترات المختلفة نشاطا محموما لتجنيد المتعاونين، ونشر ثقافة الهزيمة والاستسلام في المجتعات العربية وخاصة بعد حرب الخليج الأولي التي رفعت شعار الديمقراطية كعامل أساسي للتدخل في شؤون الدول العربية، 
والحرب في هذه البلدان ليست فقط نتيجةً لفعل رئيسٍ أو تهوّر حاكم، بل هي في اغلب الحالات من طبيعة عمل النظام العالمي في هذه المنطقة منذ السبعينات من القرن الماضي وخصوصا بعد حرب الخليج في عام 1991، ورغم ان النظام العراقي فعل  المستحيل لتجنّب الحرب، حتى انه رهن موارده النفطية للروس والفرنسيين قبل فترة قصيرة من الغزو، الا ان ذلك لم يصنع أدنى فرقٍ بالنسبة الى اميركا التي كانت مصرة على تدمير الدولة العراقية واختراق المجتمع وكسره( هو مخطط قديم للرد على حظر النفط في عام  1973 )، حيث انطلق المخطط بتشكيل قوات التدخل السريع وإعادة رسم ملامح الأمن القومي للولايات المتحدة الامريكية) . 
  كما ان أنّ الحكم في سوريا قد حاول ولفترةٍ طويلة، التصالح أو بالأحرى إيجاد صيغة من التوافق مع الأمريكان لتجنب الحرب، حيث لجأ الى فتح الاقتصاد و طبّق كلّ معايير منظمة التجارة الدولية، ورفع الحماية عن الصناعات  بالرغم من يقينه أن اميركا ستمنع دخوله الى المنظّمة، حتى انه وبعد عام 2007، كان الاقتصاد السوري بكامله فعلياً، في يد القطاع الخاص. على الرّغم من ذلك، اختارت اميركا إحراق سوريا ما أن لاحت الفرصة. والسبب بسيط، فاميركا لا تريد لسوريا أو مصر او العراق او الجزائر،،، ان تكون ككوريا الجنوبية أو تايوان، كما ان العائد الجيوستراتيجي من تدمير الدولة العراقية والدولة السورية وتحطيم المجتمع وتحويل البلد الى ساحة حرب هو أضخم مما توفره الأشكال الأخرى من احتواء العراق سوريا او مصر وليبيا وحيث فشلت اغلب محاولات الاحتواء في السبعينات والثمانينات خصوصا في سوريا والعراق.
اما دول المغرب العربي- باستثناء الجزائر فقد كانت تدور في فلك الغرب من بداية استقلالها وانهاء الاستعمار المباشر، ومع ذلك فان الغرب لم يغفل عنها وبقي يتحكم في مقدراتها ولا يسمح لها ببناء قواها الذاتية التي قد تشكل خطرا على مصالحه المباشرة فيها كما يرى اغلب المحللين، ولم ينفع هذه البلدان صداقتها للغرب عندما حانت الفرصة للتدخل فيها والعمل على تدميرها وكسر إرادة شعوبها. وقد دخلت هي الأخرى في مرحلة استنزاف سياسي واقتصادي وأمني يتمظهر عنوانها الأكبر في الاٍرهاب والأزمات السياسية المتتالية والمستمرة. 
وكما سبق واشرنا، ففي الوقت الذي أعلنت فيه النّخب الحاكمة هزيمتها الايديولوجية، وتصالحت مع الهيمنة الغربية، وتخلّت عن الفقراء ومصالحهم وتحوّلت الى طبقة تجارية ومجموعة من السماسرة، فقدت الزخم الجماهيري الذي تمتعت به في الفترات التي رفعت فيها شعار التنمية الاشتراكية وجعلت من الجماهير الشعبية محرك سياساتها. فتم تهيئة الساحة العربية للمرحلة الموالية والتي اتخذت عنوان نشر الديمقراطية والحكم الرشيد، حيث برزت الى العلن جمعيات حقوق الانسان وحقوق الأقليات وغيرها من الجمعيات والفرق والتي تدرب قادتها في الولايات المتحدة والدول المرتبطة بها. 
لقد عرفت البلدان التي اجتاحها الربيع العربي حالة من الإفقار وانعدام العدالة ( رغم ما تعلنه التشكيلات الحاكمة من انتصار الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والتي تحمل في بعض جوانبها شيئا من الصواب) التي تكرّست نسبيا في العقود الماضية بل تحولت حالة الافقار هذه الى مسعى للقتل والتشريد مثلما يحدث في حرب اليمن، حيث تقوم أثرى دول العالم العربي دخلاً (الامارات وقطر والسعودية) بضرب احد أفقر البلاد العربية دخلا وأغناها حضارة، وحصاره وتجويعه بدعمٍ غربيّ مباشر. وأغلب حكومات المنطقة، من مصر الى المغرب وتونس الى الأردن والسودان، تؤيّد الحرب علناً والبعض يشارك فيها، من دون أن تخشى أي ردّة فعلٍ من شعوبها. لهذا السّبب ايضاً، أصبحت الحكومات العربية قادرة على الانتظام، جهاراً، في أحلافٍ اقليمية مع اميركا واسرائيل وهي واثقة من أنّ مزيجاً من تكريس ثقافة الهزيمة بين النخب، وضعف وعجز المجتمع المدني والسياسي الوطني والقومي، سيسمح لها بقيادة مجتمعاتها  بسياساتٍ هي على يقين انها ستؤدّي الى إضعافها واستعمارها وتدميرها. وما نراه اليوم في سوريا وليبيا وتونس والعراق هو دليلٌ على ذلك، والنّخب الحاكمة، حين أقرّت السياسات النيوليبرالية، كانت تسير في طريقٍ لن يؤدّي الّا الى تجويف المجتمع والاقتصاد، وتخريب البلاد الواقعة تحت حكمها حتّى تصل الى مرحلة الانهيار.
لكن المشكلة الأساسية، هي أنّ التّخريب والتدمير والتفكيك في منطقتنا ليس ضدّ المصلحة الامبرياليّة، بل على العكس تماماً. فهذا الإقليم المفقر، الذي لا يملك دخلاً عالياً وقدرات انتاجيّة، ولا يريد منه الغرب الّا النّفط، هو أكثر «نفعاً» لرأس المال العالمي كميدان حربٍ وغزوات، ترفع الانفاق العسكري ومداخيل شركات السّلاح، وتضع الجيش الأميركي في قلب منطقةٍ حيويّة. وعلى عكس ما ادّعى المبرّرون لغزو العراق، فإنّ أميركا لم تغزو العراق حتّى تجعل منه دولةً ديمقراطية مستقرّة ومزدهرة، بل إنّ مصلحتها هي في استمرار حالة الحرب والعنف، وهي قد صمّمت نظاماً يخدم هذا الهدف. والحال نفسها في سوريا، حيث يترواح الهدف الأميركي من الحرب بين تقسيم البلد وتحويله الى ميدان معركةٍ مستمرّة (وهو السيناريو الأفضل)، أو الإبقاء على دولةٍ بلا قدرةٍ ولا سيادة و أنّ من تصوّر أنّ الدمار الفائق والمال الخليجي والمجموعات المسلّحة والإرهابية والمخابرات الأجنبيّة ستوصل الى ديمقراطية من أيّ نوع في سوريا، يعيش في عالم الخيال. كما ان انتاج اميركا لداعش، هو ضمانٌ لاستمرار العنف والنزاعات في المنطقة، واستمرار التدخلات الأميركية تحت شعار مكافحة الإرهاب، وقس على ذلك في كل من مصر وليبيا وتونس التي تعيش حالة من الاستنزاف والتي تهدد- على المستوى الاستراتيجي- الأوضاع في الجزائر.
ويتوضح من خلال ماسبق ان المستفيد الأول من كل ما يحدث هو إسرائيل والهيمنة الامريكية، وفِي حال عدم حصول تغييرات بنيوية على مستوى العالم توقف هذه الهجمة وتحد من الفجور الأمريكي الصهيوني الرجعي العربي، فان المستقبل لا يدعو الى الأمل. غير أنّ المستقبل لا يعرفه أحد، باستثناءان اللغة الوحيدة للمرحلة القادمة، والقدر الذي لا هروب منه، هي الحرب. فإلى متى سيستمر النزيف والتدميرو التفكيك بهدف القضاء على الرجل المريض للألفية الجديدة: الوطن العربي.
ومن لم يضع في حسبانه تربّص أعدائه به فهو خبّ لا يفهم الحد الأدنى من قواعد لعبة السياسة الدولية.

د حسن الهرماسي