ثورة 25 يناير... تجدد السؤال عن مستقبل مصر
12 سنة مرّت على زلزال 25 يناير/كانون الثاني، تعرضت خلالها الثورة المصرية لكل صنوف التنكيل والاتهامات، وتعددت لوائح المزاعم والاتهامات بحقها، وقال عنها كثير من المنتمين لها، بل والمشاركين فيها، إنها وئدت.
لكن المفارقة أن أعداءها، وكل من ناصبها العداء، وحاول أن يهيل عليها التراب، ما زال يرى فيها الشبح الذي يؤرقه، لتتحول ذكرى الثورة إلى محفز للبحث عن إجابات لأسئلة تشغل بال المصريين، وكثيرين غيرهم، يجمعهم إدراك الأهمية الكبرى للبلد العربي الأكبر، لتبقى القيمة الأهم متمثلة في سؤال عن المستقبل، في ظل أوضاع اقتصادية وسياسية أوصلت البلاد إلى حالة اختناق، وأوضاع لا يخفي القائمون على الحكم كارثيتها.
تتناسل وتتناثر أسئلة أخرى فرعية، لكنها بالنهاية تدور في السيناريوهات المتوقعة لتغيير حالة اختناق وأزمة كبرى تعيشها مصر، تعترف بها سلطة ما بعد الانقلاب العسكري، بل تكرر اعترافها وتسعى أخيراً لترسيخ أسباب تتعلق بما يمكن تسميته "الهروب للأمام"، وتصدير الأزمة إلى أطراف أخرى، تكون ثورة 25 يناير 2011 في المقدمة منها.
يحدث ذلك بينما تشهد البلاد أزمات غير مسبوقة في الاقتصاد، والسياسة، إذا سلم أحد بأن هناك سياسة أصلاً. أما ملف انتهاك حقوق الإنسان، بداية من حقه في البقاء حياً ناهيك عن حقه في العيش بالحرية وكرامة، فتكفي للمتابع نظرة على الواقع ليعيش ويرى ويسمع عن عشرات الآلاف من المغيبين في السجون والمعتقلات، بلا جريمة حقيقية، وأضعافهم من المصريين الذين فرض عليهم ترك البلاد، لأنهم شاركوا، أو أيدوا، أو حلموا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وحاولوا أن يصنعوها بفعل الثورة.
ما البديل للتغيير إذن؟
تم طرح السؤال على مشتغلين ومنشغلين بالشأن السياسي، والاقتصادي، والحقوقي، داخل وخارج مصر. وكان يمكن الخروج بحصيلة رؤى ومواقف تحاول أن تصل إلى إجابة وسيناريو يقبل التحقق بأقل قدر ممكن من السلبيات، وباستبعاد تام لأية أخطار كبرى محتملة يمكن أن تنتج عن أي من هذه السيناريوهات.
سيناريو معدل من ثورة 25 يناير، يبدو هذا البديل أكثر من غيره قابلاً للتحقق، في نظر عدد كبير من السياسيين والاقتصاديين، أحدهم تولى منصباً حكومياً مهماً، بعد الثورة.
ويشرح كيف أن "تصوراً شعبياً واضحاً يطرح على المصريين، نخبهم وعامتهم، لا يناصب المؤسسة العسكرية العداء، ويضمن لها مساحة مقبولة من النشاط الاقتصادي أولاً، والسياسي ثانياً، يمكن أن يمثل نقطة التقاء مهمة وبداية حقيقية للخروج من الأزمة وحالة الاختناق، بدرجة مقبولة من الهدوء والابتعاد عن مخاطر بقاء واستفحال الأزمة، أو اللجوء لسيناريوهات أخرى للتغيير".
يؤيده باحث اقتصادي، بدا أكثر من غيره واثقاً من أن "النتائج الاقتصادية للخروج الآمن من الوضع الاقتصادي الخطير الذي تعيشه مصر حالياً، وهو مرشح للتفاقم السريع للغاية، هو الطريق الأقل صعوبة لتجنب أية هزات ستكون بمثابة زلزال يصعب أن تتعافى منه البلاد سريعاً، في ظل وضع اقتصادي وسياسي دولي يشهد الكثير من التحولات الدراماتيكية، التي قد ينتج عنها دهس طبقات بمئات الملايين في العالم الأكثر فقراً".
وينفي أن يكون هذا مجرد حلم بعيد المنال، لأن الأزمة الكبرى برأيه هي في غياب الإرادة السياسية الحقيقية، علاوة على تعمد تغييب الإدارة الراشدة للمقدرات الاقتصادية المصرية. ويضرب أمثلة كثيرة من مصادر الدخل القومي في مصر ثابتة وقوية، وأصولها متينة، لكن التفريط فيها بأية طريقة، وليس بالبيع والتنازل والاستحواذ فقط، هو ما يمكن أن يدمرها.
يشدد المصدر ذاته، على أن الأزمة الاقتصادية الطاحنة والتدهور الحاد في جميع مناحي الحياة على أرض مصر، تسببت فيه سياسات حكومية تقوم على "إدمان الاقتراض" ــ كما وصفته مؤسسات اقتصادية عالمية ــ للصرف على مشروعات عملاقة لا تدر أي عائد، ما أدى إلى انهيار قيمة العملة المحلية، وارتفاع في جميع أسعار السلع الأساسية، التي أصبح المواطن يجد صعوبة بالغة في الحصول عليها.
سياسي مصري، من الذين شاركوا في الحركة السياسية المعارضة لنظام الرئيس الراحل حسني مبارك بعد نتائج الانتخابات الرئاسية في 2005، مروراً بمشاركة فاعلة في ثورة 25 يناير 2011م، يلفت النظر إلى أن "الواقع الاقتصادي والسياسي، وجهات أممية ودولية كثيرة، بما فيها صندوق النقد الدولي نفسه؛ تعيد الاعتبار إلى الثورة، حتى بدون ذكر اسمها وربما بدون التفكير في تكرارها من الأساس".
ويوضح أن "الصندوق ينصح بضرورة ابتعاد الجيش عن التحكم في مفاصل الاقتصاد، ويطالب بالاهتمام بالطبقات الأكثر فقراً، حتى وإن كانت سياساته عكس ذلك، ويركز على ضرورة وقف الإنفاق على مشاريع لا تعود بالنفع على الشرائح الأكثر فقراً في المجتمع، بل ويطالب بدعم مالي من الدول العربية.
ويؤكد على ضرورة تخفيف حالة الاحتقان السياسي. وهو يشترك في هذا مع مطالبات أممية ودولية متعددة تتكرر بوتيرة متصاعدة". ويلفت إلى أن هذه النقاط في حقيقتها هي "ما كانت تطالب بها الثورة المصرية في 2011".
ويستبعد الحقوقي المصري، تماماً، أن يقبل النظام هذه الفكرة، لأسباب متعددة من وجهة نظره، في مقدمتها "أن النظام لا يجد نفسه مضطراً لهذا ما دام الضغط الداخلي لم يتحول إلى كابح حقيقي لتنفيذ سياساته التي بدأ هو نفسه يشير إلى فشلها، ولو بدون اعتراف حقيقي صريح بهذا، وما دام أنه ما زال يحظى بقبول إقليمي ودولي يضمن بقاءه على الأقل لكي يحقق لأطراف كثيرة، غير مصر، أهدافها".
ورغم هذا، يقول المصدر ذاته، إنه لا يمانع إذا بادر النظام الحالي بقبول تبني وتنفيذ هذه الفكرة، بشرط أن يكون جاداً في تطبيقها.
من هذا المدخل يرى معارض مصري مقيم في الخارج، أن طرح مشروع وطني، برؤية واضحة، وبرنامج عملي قابل للتطبيق، وعرضه على المصريين جميعاً بكل الطرق المتاحة والممكنة، هو برأيه نقطة الانطلاق، للخروج من مأزق لم تمر به مصر في تاريخها الحديث، لأن "هذا من شأنه أن يجعل هناك ثقة حقيقية لدى الناس في الشارع بأن التغيير والانتقال من هذا الوضع الحالي، ممكن، وهو بديل متاح، بدلاً من ترك جانب كبير من الشارع المصري عرضة للتخويف من المجهول، كما يردد رأس النظام وأقطابه وأذرعه الإعلامية".
يقول المعارض نفسه، إن النظام الحالي يستغل كل فرصة ويروج للفرية القديمة، التي لم تنقذ حسني مبارك، "أنا أو الفوضى"، وللأسف فإنه في كثير من الحالات تسمح تصرفات من يحسبون بالحق، أو بالباطل على معسكر الثورة، بتكريس أكذوبة "غياب البديل"، التي راجت حتى بين أوساط المثقفين؛ وينسى هؤلاء أن النظام الحالي بأقطابه ورموزه وشخوصه يمضي من فشل إلى فشل في إدارة الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد، وأن مصر مليئة بالكفاءات في كل المجالات التي تجعلها تخرج بها من هذا النفق المظلم.
في محاولة البحث عن إجابة لسؤال الخروج من الأزمة، اتفقت آراء أكثر من مصدر على تصور واحد، وهو أن الفشل الاقتصادي بالدرجة الأولى، ثم الحقوقي، فالسياسي بدرجات تالية، سيفضي حتماً في لحظة تبدو قريبة إلى عدم قدرة النظام الحالي على الاستمرار، بصورة تجعله هو نفسه يتوقف وفقاً لنظرية "القصور الذاتي". وربما تكون هنا المشكلة والحل، إذ ستكون الفرصة متاحة لتغيير أكثر هدوءاً. لكن كيف سيكون وضع البلاد وقتها، وهل يمكن إيجاد مشروع وطني حقيقي يجمع المصريين، بتوجهاتهم كافة، نحو تجاوز هذا الوضع؟
يقول أحد المصادر إن ذلك سيكون متاحاً رغم صعوبته، فتجارب سنوات ما بعد ثورة 25 يناير 2011م، منحت المصريين دروساً كثيرة واضحة في ضرورة البحث المشترك، والاتفاق والتوافق على اتساع بلادهم لكل الاتجاهات والآراء والتوجهات، فأحد مصادر قوة مصر الحقيقية، هو التجانس المجتمعي الأصيل، رغم ما لحق بالنسيج المجتمعي من شروخ تحتاج إلى حكمة وصبر، ورؤى عاقلة وإجراءات حاسمة تعالج وترمم وتعيد لهذا النسيج تماسكه، في أسرع وقت ممكن، قبل أن يستفحل ويتحول لأمراض مزمنة تستعصي على العلاج.
المؤتمر الوطني
يطرح سياسي مصري، محسوب على قوى "المعارضة" في الداخل، فكرة "المؤتمر الوطني"، الذي يمكن تنظيمه، بكثير من الجهد وبضرورة توفر إرادة وطنية حقيقية، وفقاً لكلامه، تتبناها قوى المعارضة في الداخل والخارج، "يمكن أن تكون البديل الجاد والحقيقي لفكرة الحوار الوطني التي يروج لها النظام".
ويشرح فكرته "بأنها تبدأ بالدعوة إلى تقديم تصور شامل لملفات اقتصادية، وسياسية، وحقوقية، تقدم علاجاً حقيقياً وتصوراً ذا خطوات عملية لكل الأزمات الكبرى في البلاد، يقوم عليها متخصصون في كل ملف منها، على أن يتبلور هذا في نقاط محددة واضحة تقنع المصريين، بأن هناك من يمكنه الخروج بالبلاد من أزماتها الكبرى".
يضيف السياسي المصري أن هناك عبارات يطلقها معارضون في الداخل والخارج، تبدو أقرب إلى الشعارات منها لبرنامج عمل ورؤية واضحة، فكل مصري يريد أن يعرف كيف يمكن حل قضية سد النهضة الإثيوبي التي تهدد مصر وجودياً، وبلا مبالغة، انطلاقاً من الموقف الحالي، وهو يريد من يقدم له برنامجاً اقتصادياً واضحاً ورؤية محددة تجعله يحصل على وضع معيشي كريم، ويطلب أن يعرف تصوراً عملياً محدداً لملف العدالة الحقوقية التي تمس عشرات الآلاف من الأسر التي قتل، أو أعدم، أو أخفي أبناؤها قسراً، وعذبوا في سجونهم. وهكذا في الملفات التي تشغل المصريين وتتعلق بمقدراتهم في مجال الطاقة وحقول الغاز، والمحافظة على الأصول العامة، وعدم التسليم بأن بيعها هو الحل الوحيد، كما يزعم النظام الحالي، للخروج من نفق الأزمة الاقتصادية.
وبرأيه من شأن هذا "المؤتمر الوطني"، الذي يمكن تنظيمه حضورياً خارج مصر، وربما في أكثر من مكان، وبمشاركة بالدراسات وأوراق العمل إلكترونياً من داخل البلاد، أن يكون حافزاً حقيقياً لاقتناع المصريين، بمن فيهم أطراف فاعلة وقوية داخل النظام الحالي، بأن الخروج من الأزمات ممكن، وبدون تعريض البلاد لأية أخطار حالية، أو في المستقبل.
نقطة اتفاق أخيرة، وردت على لسان من تم التواصل معهم، بأن استلهام روح ثورة 25 يناير الحقيقية، يكمن في تجديد الثقة، بأن الشعب المصري يمتلك الكثير، وأنه ما زال قادراً على تجاوز الأزمات والعبور بمصر إلى الأمان الحقيقي، وأن تكون كما حلموا بها قبل 12 عاماً.
قفزة في الديون
توسعت الحكومة في الحصول على قروض أجنبية، رفعت حجم الدين الخارجي من 42 مليار دولار عام 2013 إلى 157 مليار دولار منتصف عام 2022، عدا القروض التي حصلت عليها شركات عامة وبنوك وجهت بضمان من وزارة المالية، لسداد التزامات الحكومة لدى الدائنين أو تمويل برامج حددتها تعليمات رئاسية.
تحولت الوزارات إلى جهات تنفيذية للخطط التي وضعت بمؤسسة الرئاسة تحت إشراف مباشر من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، والشركات التابعة لها، وصفها خبراء بأنها مشروعات غير ذات جدوى اقتصادية أو عديمة الفائدة، ويمكن تأجيلها، من بينها توسعات تفريعة قناة السويس، والتوسع في محطات توليد الكهرباء، بما يزيد عن الطلب بالبلاد، والقطار الكهربائي، والمونوريل، وإقامة الأبراج، والمقار الحكومية، عدا القصور الرئاسية والجسور والطرق الشاسعة، الزائدة عن الحاجة بالتوسعات العمرانية الجديدة.
يؤكد خبراء بالمركز المصري للدراسات الاقتصادية، أن غياب الرؤية الاقتصادية والمشاركة المجتمعية في اتخاذ القرارات، أدى إلى تدهور حاد في الاقتصاد المصري، ساهم في تآكل الاحتياطي النقدي والضغط على العملة، ورفع مستوى الديون إلى معدلات غير مسبوقة، حتى "أصبح غير قادر على توليد فرص عمل جديدة"، وأدخل العمال والخريجين بمحافظات لم تعرف البطالة من قبل مثل دمياط في مستنقع العاطلين.