حديث الهُوِيَّة اليمنية

تزايد الحديث في الأونة الأخيرة حول الهُوِيَّة اليمنيّة ورموزها، خصوصاً على صفحات التواصل الاجتماعي، وزاد الجدل بين المتحدثين حول الهُوِيَّة ورموزها، من متعصب لرموز معينة ومستهجن لهذه الرموز، كالخنجر اليمني، الذي نسميه بالمحلية الجَنْبِيَة، وحيوان الوعل وغيرهما.

فما هي الهُوِيَّة اليمنيّة؟

من الصعب تعريف الهُوِيَّة بكلمات، لأن الهُوِيَّة، كما يقول عبدالإله بلقزيز، "غير قابلة للإدراك إلا بوصفها حصيلة تراكم متجدد؛ فما لا يكون في زمن جزءاً من مكونات الهُوِيَّة، قد يصبح كذلك في زمن لاحق. وما كان من مكوناتها أو من محدداتها في زمن، قد يندثر مفعوله فلا يعود في جملة ما تتحدد به هُوِيَّة الشيء"، وهكذا فالهُوِيَّة متجددة التكوين، حيث تساهم عوامل متعددة في تشكيلها عبر امتداد الزمان، وإن كانت، كما يقول محمود سمير المنير، "جماع ثلاثة عناصر: العقيدة التي توفر رؤية للوجود، واللسان الذي يجري التعبير به، والتراث الثقافي طويل المدى"، فهذه العناصر الثلاثة تدخل في صيرورة، تتبدل وتتغير مع الظروف الاجتماعية والجغرافية، مما ينعكس على هُوِيَّة الشعب الذي تمثله، فلا يمكن أن نمسك برمز معين ونعتبره هُوِيَّة شعب، بقدر أننا لا نستطيع رفض ذلك الرمز في الوقت نفسه، لأن ديناميكية صناعة الهُوِيَّة تستمر في الجريان، مما يستوجب مرونة هذه الهُوِيَّة لاستيعاب كل الرموز، لكن في نهاية المطاف هناك محدد مهم لهذا الاستيعاب، هو أن الهُوِيَّة يجب أن تعبّر عن الشعب الذي تمثله وليست دخيلة عليه ولا تمت له بصلة، لأن الهُوِيَّة بصمة مميزة له عن باقي شعوب الدنيا.

أما عن الأديان والهُوِيَّة، فقد كان حضور اليمنيين على أرضهم سابقاً لظهور الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، التي التقت على أرض اليمن عبر تاريخه الطويل، وشاركت في صبغ الشخصية اليمنية، لكنها لم تكن هُوِيَّتَه بقدر كونها عنصراً مشاركاً في ذلك، فنحن يمنيون، قبل أن نكون يهوداً زمناً، أو مسيحيين في زمن لاحق، أو مسلمين أخيراً، فلم تسلبهم تلك الأديان هُوِيَّتَهم التي ميّزتهم عن غيرهم، بالرغم من أن الإسلام كدين صَبَغَ المنطقة العربية بصبغته الخاصة به أكثر من غيره من الأديان بحكم أنه الدين الخاتم، لكنّ أثر الإسلام في اليمنيين لم يطمس يمنيّتهم بل شذّب هذه الهُوِيَّة فصاروا يمنيين مسلمين بدون انفصام في ذلك، واستمدوا من الإسلام مفاهيمه التي مزجوها في أغانيهم وعاداتهم وتقاليدهم الشعبية، وأضرب مثلاً على ذلك، جمل الشعبانية الذين يحتفون به في منتصف شعبان من كل عام، حيث يصنع الأطفال دميةً لجمل ويمرون به في ليل الحارات اليمنية وهو يطبلون على العلب الفارغة، طالبين طعاماً لهذا الجمل الخرافي مما يجود به الناس!    

منشدين:

ألا مسا ليليه يا ليليه... ألا مسا ليلة الشعبانية

ألا مسا جيت أمسّي عندكم... ألا مسا زوجوني بنتكم

ألا مسا جيت أمسّي من (حُبيش)... ألا مسا بالغرارة والكُبيش

وحُبيش اسم منطقة، أما الغرارة فهي الكيس الكبير، والكُبيش تصغير الكبش، أي الخروف.

قد تتساءل لماذا جمل، وليس حيواناً آخر؟

ولماذا في شهر شعبان بالذات، وليس شهرا آخر؟

سترى تأثير الحضارة السبئية التي عبدت القمر وسمّته (أل مقه)، إلى جوار الشمس والزهرة، هذا القمر الذي يكون في أكمل ظهور له في السنة ليلة منتصف شعبان، مما يُوحي بعيد سبئي كان يُقام في ذلك التوقيت، وقد تسربت تلك الذكرى عبر القرون إلى العقل الجمعي اليمني في العصر الحديث، ومن جهة ثانية إن منتصف شعبان في بعض المرويات الإسلامية هي ليلة نزول الأوراق إلى السماء الدنيا، مبينة للناس منْ سيموت، ومنْ سيرزق، ومنْ سيولد في قابل الأيام.

أما الجمل، فهو حيوان نقل التجارة الأشهر في أغلب الحضارات العربية القديمة، التي منها اليمن.

فنجد في ظاهرة جمل الشعبانية امتزاج الديني بالسبئي.

والسؤال لماذا الالتفات إلى الهُوِيَّة في هذا التوقيت؟

إن الذين تندّروا على لبس الخنجر اليمني أو رفع رمز حيوان الوعل على صفحات التواصل الاجتماعي، كانوا يتحدثون عن العلاقة بين الهاوية التي انحدرنا فيها، والهُوِيَّة التي تُرفع رموزها، هم بذلك يجيبون عن السؤال المطروح، من حيث لا يدرون؛ فاليمنيون أحسوا بما يجري من تجريف لكل ما يَمت بسبب لليمن خلال هذه السنين العجاف التي تعيشها اليمن، فلجئوا إلى رموزهم التراثية والثقافية التي تمثّل هُوِيَّتهم، أو هكذا تمَثَلَ لهم، لأنها الجدار الذي يستندون عليه لمقاومة كل ما يجري لهم، يقول د. عبدالوهاب المسيري "إن الهُوِيَّة في الواقع شكل أساسي من أشكال المقاومة شرط ألا تتحول إلى "غيتو" يدخل فيه الإنسان ويتخندق".

يقول محمود درويش في قصيدة (طباق) المهداة للمفكر إدوارد سعيد:

والهُوِيَّة؟ قلتُ

فقال: دفاعٌ عن الذات..

إنّ الهُوِيَّة بنتُ الولادة، لكنّها

في النهاية إبداعُ صاحبها، لا

وراثة ماضٍ. أنا المتعدِّدُ. في

داخلي خارجي المتجدِّدُ...

عبد الحفيظ العمري - كاتب ومهندس يمني، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا.