العالم الثالث والتنمية في زمن الأزمة !

لا يوجد من يعاني من آثار الأزمات التي اجتاحت العالم في السنوات الأخيرة أكثر من البلدان النامية التي يفقد سكانها قدرتهم على تأمين متطلّبات الحياة اليومية بشكل متسارع، ويندفع المزيد منهم، يومياً، إلى هاوية الفقر المدقع. يمكننا اليوم تحديد 3 أزمات رئيسية تقف وراء معاناة شعوب هذه الدول:

أولاً: التغيير المناخي؛ وما نجم عنه من موجات الجفاف، أو فيضانات أصابت العديد من الدول النامية، وأدت إلى إتلاف المزروعات ونفوق قطعان الماشية وتدمير المنازل، مما دفع الكثير من المواطنين إلى الهجرة بعيداً عن مناطق سكنهم الأصلية. هذه الهجرات غير المنظّمة، توجّهت في معظمها نحو المدن مما وضع المزيد من الضغوط على البنى التحتية، الهشّة أصلاً، خاصة في مجالي التعليم والصحة، وأدت إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر.

ثانياً: جائحة كورونا، وما خلّفته من تباطؤ لسلاسل الإمداد، وارتفاع تكاليف الشحن، وارتفاع أسعار المواد الأساسية بسبب انخفاض الإنتاج العالمي بشكل عام، وفي مجال المنتجات الغذائية بشكل خاص. كما أدى العدد الكبير من الإصابات إلى استنزاف القطاعات الصحية في الكثير من الدول النامية، وارتفاع كلفة الخدمات الصحية بشكل عام. لقد كان سلوك الدول الغربية غير الإنساني، باستئثارها بمعظم موارد الكوكب لصالح شعوبها، عاملاً مهماً من عوامل مفاقمة هذه الأزمة.

ثالثاً: الحرب في أوكرانيا، والتي أدت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل عام والحبوب والزيوت النباتية بشكل خاص. على الرغم من تراجع أسعار المواد الغذائية عمّا وصلت إليه في الشهور الأولى للأزمة، إلا أنها لا تزال أعلى مما كانت عليه قبل الحرب بنسبة 5.8%. 

وساهمت الدول الرأسمالية في مفاقمة هذه الأزمة من خلال استيلائها على جزء كبير من الحبوب المصدّرة من خلال اتفاقية الحبوب الروسية – الأوكرانية، إذ لم تحصل الدول الفقيرة إلا على 3% من هذه الحبوب وذلك بحسب تقارير برنامج الغذاء العالمي.

إذا أمعنا النظر في النتائج التي تركتها هذه الأزمات على اقتصادات الدول النامية، سنجد أن تقارير البنك الدولي تشير إلى أن معدلات النمو خلال السنوات المتبقية من هذا العقد أقل بنسبة 33% مما كانت عليه خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

بالنسبة للقضاء على الفقر الذي يشكّل الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة، كان العالم قد وضع نصب عينيه القضاء على الفقر المدقع (دخل أقلّ من 2.15 دولار في اليوم) بحلول عام 2030. أما اليوم فإن الأرقام تشير إلى أنه، وفي أحسن الأحوال، سيكون عدد من يعيشون في فقر مدقع بحلول عام 2030 نحو 600 مليون إنسان.

ما زالت الدول النامية بعيدة جداً عن تحقيق الهدف السابع من أهداف التنمية المستدامة "طاقة نظيفة بأسعار معقولة". يؤدي ارتفاع تكاليف الاستثمار في مشاريع الطاقة النظيفة، وتخلّف المكننة الصناعية والزراعية في الدول النامية إلى ارتفاع معدلات التلوّث، وبالتالي تعظيم آثار التغييرات المناخية وما ينجم عنها.

ويؤدي ارتفاع تكاليف الطاقة إلى إعاقة تنفيذ الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة "المياه النظيفة، والنظافة الصحية"، فما زال ثلث سكان كوكب الأرض لا يحصلون على مياه صالحة للشرب.

تشير إحصاءات التقرير الاقتصادي العربي الموحّد لعام 2020 إلى أن نصيب الفرد من المياه العذبة سنوياً في المنطقة العربية يبلغ 800 متر مكعّب في عام 2019، وسيتعرّض للتناقص عام 2025 ليصل إلى 667 متراً مكعّباً، وهو ما يعني أن متوسط نصيب الفرد من المياه عام 2025 سيمثّل نسبة 20% ممّا كان عليه عام 1955، حيث كانت هذه الحصة للفرد تبلغ 3430 متراً مكعباً.

في مواجهة هذه الأزمات، تتحوّل التنمية إلى تحدٍ كبير لا يمكن لدولة نامية التصدّي له منفردة. فعلى الرغم من أن موضوع المناخ والبيئة يحتلان موقعاً متأخّراً على أجندة الحكومات والقوى السياسية في معظم الدول النامية، إلا أنه يبقى الخطوة الأولى والأهم في مشروع التنمية. ويمثّل التعاون والتخطيط المشترك في المجال البيئي حجر الأساس في التنمية الزراعية ومواجهة أزمة الغذاء.

إن التشريعات الصارمة والمشتركة والمتعلّقة بقطع الغابات وتلويث المياه الجارية والجوفية، ومنع الهدر والاستهلاك الجائر للمياه (نسبة الهدر في قطاع الزراعة العربي 30%) هي مدخل مهم لتوسيع رقعة الأراضي الزراعية، والحفاظ على البيئة.

في الوقت نفسه تؤمّن المشاريع والأجندات الزراعية المشركة توفيراً للمياه في الدول التي تعاني شحاً منها، وهو ما يمكن أن تؤمّنه مشاريع المياه المشتركة، التي يمكن أن ترفع حصة المياه في الدول التي تعاني فقراً مائياً. 

تشكّل الطاقة العامل الاقتصادي الأهم في اقتصاد المستقبل، ويرتفع الطلب عليها يومياً ممّا يرهق اقتصادات الدول النامية. وتمثّل المشاريع المشتركة لتوليد الطاقة، وخاصة الطاقة النظيفة، حلّاً مهماً لأزمة الطاقة التي تعاني منها معظم الدول النامية.

إنّ دولة مثل الأردن تنتج ضعف حاجتها من الكهرباء قادرة على تزويد سوريا ولبنان اللذين يعانيان من نقص حاد في هذا المجال. لا بدّ هنا من تأكيد الطابع الوطني للمشاريع المشتركة بحيث لا تكون مشتركة مع العدو الصهيوني أو مموّلة من المؤسسات المالية الدولية.

يمكن لمشاريع الطاقة المشتركة أن تكون المدخل للتكامل والتشارك صناعياً، بما يمنع هدر الموارد الأولية المحلية أو المستوردة، ويؤمّن أسواقاً تجعل النشاط الصناعي مجدياً اقتصادياً، ويتمّ، بالتالي، الاستغناء عن جزء من المستوردات التي ترهق الموازنات الوطنية.

أخيراً؛ يمثّل المال عصب الاقتصاد، لذلك سيكون من المهم إنشاء بنك إقليمي دولي؛ لدعم الصادرات والواردات بالعملات المحلية، يقدّم الدعم للمشاريع الإنتاجية المشتركة، ويُنشئ صندوقاً للحماية من الكوارث يعمل على تقديم المساعدات المالية والمشورة الاقتصادية لأي دولة، أو للدول المساهمة مجتمعة إذا ما تعرّضت لكوارث كبرى كما حدث في جائحة كورونا أو الزلزال الذي ضرب سوريا.

خلاصة القول، التنمية في زمن الأزمة لا يمكن أن تنجح إلا من خلال التعاون والتكامل الإقليمي، وذلك قبل الانفتاح على التكتلات العالمية مثل دول البريكس أو منظمة شنغهاي. بعكس ذلك ستبقى مشاريع التنمية الوطنية الفردية، مشاريع هشّة، قابلة للانهيار عند الأزمة التالية.

عماد الحطبة - كاتب سياسي أردني