مات عطشاً.. جانبًا من معاناة أهل بلاد كانت تسمى قديمًا بـ "السعيدة"
بعد أيام من السير على قدميه، مجتازاً أودية وجبالاً وعرة، فقد محمد الأمل في العثور على الماء أو الزاد.
وضع ملابسه التي يحملها أدنى رأسه ونام نومته الأخيرة تحت ظل شجرة حدودية بين بلدين.
بحث عنه أبناء مديريته ومن كانوا معه في الرحلة من اليمن نحو المملكة العربية السعودية، فوجدوه متوفياً "جفت عروقه ولسانه من شدة العطش وبلغ به الجوع مبلغه".
منذ أيام وصل النبأ حول مصير الفتى محمد القحفة، الطالب الذي غادر زملاءه في الصف الأول الثانوي بمدرسة الشهيد المقبلي بمديرية الرضمة التابعة لمحافظة إب.
ووفقاً لمن عثروا على جثته، فقد تركوه في ذات المكان "باءت محاولات الدفن بالفشل لأنهم لم يجدوا أدوات للحفر".
قبل أن يُجبَر محمد القحفة على محاولة الوصول إلى السعودية، كان والده "مطيع توفيق" قد سلك ذات الطريق التي مات فيها نجله.
تقول المصادر إن الأب لم يستطع جمع تكاليف فيزا العمل، مما دفعه للتفكير في الوصول إلى المملكة عبر رحلة محفوفة بالمخاطر.
نجح الأب في تجاوز رحلة الموت واجتياز الحدود اليمنية السعودية والوصول إلى الداخل السعودي.
خبرته المعدومة في التعامل مع حياة وبلاد مغايرة كشفت أمره مبكرًا، ليتم القبض عليه من قبل الشرطة السعودية وإيداعه السجن وتحويله للجهات المعنية التي أصدرت ضده حكمًا بالسجن لخمس سنوات.
عرف محمد من مسافرين أن والده في السجن، وأدرك حاجة أسرته له، فقرر ترك فصله الدراسي ليبدأ فصلًا جديدًا من مسؤولياته تجاه والدته وأشقائه الذين يصغرونه وهم "منتظر وتوفيق" وثلاث شقيقات، يسكنون في قرية "شمظه" بعزلة كحلان مديرية الرضمة.
لا يزال الأب رهين السجن منذ عامين، يقضي مدة محكوميته ، فيما أسرته تتلظى من الفاقة والعوز والبقاء دون معيل، مما دفع نجله الفتى اليافع "محمد" لمغادرة المدرسة.
وهو شعور صعب أن تترك مقاعد الدراسة وترحل عنها بغير رجعة، كون الأقدار أخذتك عنوة من بين أقرانك وزملائك وتحملت مسؤولية تثقل كاهل الكبار.
فكيف بقلب فتى في الصف الأول الثانوي، لا يعرف شيئًا عن مصاعب الحياة التي تنتظره في المنعطفات القادمة وكيفية التعامل معها، حيث رحل الفتى "محمد" باحثًا عن عمل ومصدر دخل، بعد أن ظل يشتغل بشكل متقطع في أعمال يدوية ما يكسبه منها لا يغطي احتياجات أسرته التي تعاني مثل آلاف العائلات اليمنية جراء تصاعد موجة الغلاء وتوقف كثير من مصادر الدخل التي كانت متوفرة قبل اندلاع الحرب .
بدا لمحمد أن مواصلة الحياة على هذا النحو أمر غير ممكن، فقرر السفر واللجوء لرحلة المخاطر التي سلكها والده وكانت قاسية على أبيه.
ظن أنه بالإمكان أن ينجو ويعوض أسرته ما وجدته من متاعب وشظف العيش في سنوات قاسية ومؤلمة، غير أن تلك الهواجس تبخرت تحت ظل شجرة لا تثمر.
قبله بمدة قصيرة، كانت قرية أخرى من ذات المحافظة قد فجعت بذات النبأ؛ موت شاب آخر من أبناء قرية "القبلي" على الحدود اليمنية السعودية. الفرق بينهما أن الثاني مات أثناء رحلة الخروج من المملكة عن طريق التهريب.
نشطاء من أبناء إب، نعوا في منصات التواصل الاجتماعي المختلفة وفاة (مثنى محمد عبد الله عبده إسماعيل علوه)، حيث أفادوا بمقتله برصاص قناصة لم يُعرف مصدرها، أثناء خروجه من السعودية عن طريق التهريب.
الشاب "مثنى علوه" وقبله الفتى محمد القحفة، لن يكونا آخر الضحايا اليمنيين في رحلة الموت بين الحدود اليمنية السعودية.
إذ أن القائمة طويلة وعداد الضحايا مستمر، وقصص الضحايا الأكثر إيلامًا ما تزال مغيبة في معاناة منسية لا يعرفها غالبية اليمنيين الذين يعيشون بين لظى الداخل المفقر وجحيم المخاطر التي تبدأ بفكرة وتنتهي بفاجعة تحكي جانبًا من معاناة أهل بلاد كانت تسمى قديمًا بـ "السعيدة".