قوة الهدم... حين تنتصر اللحظة السوداء على عقودٍ من البناء
في عالم تتشابك فيه أحلام الشعوب مع صبرها، وتُبنى الأوطان لبنةً فوق لبنة، لا شيء أكثر فتكًا من لحظة هدمٍ عمياء، تنسف ما شُيِّد على مدى سنوات طويلة من المعاناة والعمل والأمل.
فالهدم – على عكس ما يتوهم البسطاء – ليس فعل ضعفٍ دائمًا، بل قد يكون قوة، لكنها القوة الأكثر تدميرًا، لأنها لا تصنع، بل تبتلع، ولا تنير، بل تطفئ.
وهذا ما عاشه اليمن حين اجتاحت جماعة الحوثي عاصمة البلاد، فأسقطت الدولة، وخنقت الحلم، وهدمت ما بنته الأيدي الوطنية في عقود، في لحظةٍ واحدة فقط.
لقد جاءت لحظة الهدم لا لتنازع السلطة أو تطلب الشراكة، بل لتسحق كل شيء. لم يكن الانقلاب الحوثي تغييرًا في رأس الحكم، بل نسفًا لبنية الدولة، لروح الجمهورية، لهيبة القانون، ولمعنى المواطنة.
في أيام قليلة، تبدّدت مؤسسات كاملة، تفككت شبكات التعليم والقضاء والإعلام، وتحوّلت الوزارات إلى ثكناتٍ طائفية، تُدار بمنطق الغلبة لا الكفاءة، وبشهوة السيطرة لا روح الخدمة.
من السهل أن يُقال إن الحوثي دخل صنعاء بالسلاح، لكن الأصعب أن نحصي كم فكرة تم اغتيالها، وكم أمل تم سحقه، وكم شريان من شرايين الوطن تم قطعه.
لقد أثبتت هذه الجماعة أن الهدم لا يحتاج إلى علم، ولا إلى رؤية، ولا إلى ضمير. لا يحتاج إلى مشروع تنموي، ولا إلى وعي بالتاريخ، بل يكفي أن تمتلك الرغبة في الطغيان، والقدرة على إطلاق النار.
وهكذا، سقط وطن في يوم، وانهارت دولة بلمسة إصبعٍ على الزناد.
ما بنته اليمن من مؤسسات، ووعي، وخطاب وطني جامع، ومن شرايين للحياة كانت رغم صعوبتها تنبض بالحد الأدنى من التماسك، كله تهشّم في لحظة الغدر.
وكلما أمعنا النظر في ما جرى، تعاظمت في عقولنا تلك الحقيقة القاسية: أن البناء مسارٌ طويلٌ مؤلم، أما الهدم، فيمكن أن يبدأ بصيحة جنون، وينتهي بجثة وطن.
ولعل أكثر ما يُدمي القلب أن الحوثي لم يقدّم بديلاً، لم يأتِ بمشروع نهضوي، ولا بنموذج تنموي، ولا برؤية لإخراج الناس من فقرهم أو جهلهم أو مرضهم.
بل أعاد المجتمع إلى دائرة الخرافة، وبنى سلطته على تمجيد النسب والسلالة، وأسس نظامًا قائمًا على الجباية والخطابة والرصاص، لا على التنمية، ولا على القانون.
وهنا تصدق المقولة الخالدة: "من عجز عن البناء، فلا ينشغل بالهدم". لكن الحوثي لم يعجز فقط، بل أصرّ على أن يُهدم كل ما لم يستطع أن يفهمه أو يمتلكه.
وإن كانت الهزيمة الكبرى ليست في خراب البنية التحتية، بل في خراب المعنى، فإن أكبر ما فعله الحوثي هو أنه سلب من اليمنيّين ثقتهم بإمكانية النهوض، وأدخلهم في نفق طويل من الإحباط والتيه،
حتى باتت الفكرة الوطنية نفسها محل شك، وصار المواطن في حالة خصام مع واقعه، وخوف من مستقبله، وعجز عن ماضيه الذي دُمِّر بلا رحمة.
قوة الهدم هائلة، لا لأنها أعظم من قدرة الإنسان على البناء، بل لأنها لا تحتاج إلى وقت. هي لحظة، لكنها لحظة ملوّثة، سريعة، كافية لتحويل مدينة إلى ركام، ومجتمع إلى فوضى، وأمة إلى ذكرى.
إن ما يُبنى في أربعين عامًا يمكن لطلقةٍ واحدة أن تهدمه، وتلك هي الكارثة التي يجب ألا تُنسى.
لكن رغم هذا الخراب كله، تبقى الحقيقة الأعمق أن الهدم، مهما بدا صاخبًا وقويًا، عقيم، لا يُنجب حضارة، ولا يُخلِّد أصحابَه، بل يدفنهم في أنقاض ما دمّروه.
فالتاريخ لا يذكر الهادمين إلا كلعنات، بينما يخلّد البنّائين كمنارات. واليمن، مهما تم تدميره، سيعود من جديد، لأن الشعوب لا تموت، ولأن البناء الحقيقي لا يقوم على الطوب وحده، بل على الإرادة،
وعلى الوعي، وعلى الإيمان بأن لحظة السقوط، مهما طالت، ليست نهاية الطريق، بل امتحانًا للنهضة القادمة.