
قصر القعيطي يعود للحياة... تراث طيني يبعث من عمق حضرموت
لا تُختزل القصور التراثية في طينها وجدرانها، بل تنبض بذاكرة مدنٍ وأزمنة، وتختزن بين زخارفها حكايات السلاطين وروح المكان.
الإبقاء على هذه المعالم ليس رفاهية ثقافية، بل ضرورة لحماية الهوية، وربط الأجيال الحاضرة بجذورها المعمارية والاجتماعية، وإحياء لمكانة كانت ذات يوم مركز إشعاع حضاري وسياسي.
قصر القعيطي
بعد فترة طويلة من أعمال الترميم والتأهيل، يترقّب حضارم السلطنة القعيطية السابقة افتتاح قصر السلطان علي بن صلاح القعيطي في مدينة القطن بمحافظة حضرموت، كبرى محافظات اليمن،
وذلك في مشروع نفذته مؤسسة دوعن للعمارة بأيدٍ حضرمية خالصة، أعاد إلى المبنى أصالته كتحفة معمارية تمثل فن العمارة الطينية التقليدية بزخارفها ونقوشها الخشبية الفريدة.
ومع نهاية يونيو (حزيران) الماضي، أعلنت المؤسسة استكمال مشروع ترميم القصر الواقع في مديرية القطن، والذي انطلق في مارس (آذار) 2023. ويشير المهندس علي عبيد باسعد، مدير المشاريع، إلى أن المبادرة جاءت انطلاقاً من الوعي بقيمة القصر،
بوصفه أحد أبرز المعالم المعمارية التي تجسد هوية حضرموت وتراثها،
ويكاد يضاهي من حيث الأهمية قصر سيئون، لولا ما تعرض له من تدهور بنيوي نتيجة الإهمال والعوامل الطبيعية وغياب الصيانة المنتظمة لسنوات طويلة.
الهدف من الترميم
يؤكد المهندس علي عبيد باسعد، مدير المشاريع في مؤسسة دوعن، أن ترميم قصر القعيطي يهدف إلى الحفاظ على التراث الثقافي والمعماري لحضرموت، بوصفه رمزاً لحكم السلطنة القعيطية، وواحداً من أبرز نماذج الطراز الحضرمي التقليدي، بما يتضمنه من زخارف خشبية ونقوش طينية.
وأضاف أن المشروع لم يقتصر على الحفاظ المعماري، بل شمل إعادة توظيف القصر كمركز للأنشطة الثقافية والفنية، بما يضمن استدامته كمَعْلَم يخدم المجتمع المحلي ويعزز مكانة المدينة سياحياً وحضارياً.
استعادة التفاصيل
يشير باسعد إلى أن أعمال الترميم استعادت التفاصيل الأصلية للقصر باستخدام مواد تقليدية كالطين والنورة، وأُعيد بناء ملحق "نِعمة خان" بالكامل، مع تحسينات خدمية شملت الكهرباء بالطاقة الشمسية، والصرف الصحي.
كما جُهّز القصر ليكون مركزاً ثقافياً يعكس هوية حضرموت، وأسهم المشروع في تدريب عشرات الشباب على تقنيات البناء الطيني، ليبقى القصر شاهداً حياً على عراقة العمارة المحلية، ومحفزاً لتنشيط السياحة الثقافية في وادي حضرموت.
صعوبات الترميم
يشير المهندس علي عبيد باسعد إلى أن المشروع واجه تحديات معقدة، أبرزها التدهور الكبير في البنية الإنشائية للقصر، لا سيما في سطحه وجدرانه الجنوبية التي عانت من تصدعات وانهيارات متقدمة.
كما واجه الفريق نقصاً في الكوادر المتخصصة بترميم العمارة الطينية، ما استدعى الاستعانة بخبرات نادرة، بينها الخبير صالح بريك.
يضاف إلى ذلك صعوبة التحويلات المالية من الجهة الداعمة، مؤسسة "ألِف" (ALIPH)، نتيجة القيود المفروضة على التعاملات المصرفية في اليمن بسبب الحرب.
جهود في الترميم
ظهرت مؤسسة دوعن للعمارة عام 2008 في سياق الحاجة إلى إنقاذ عدد من المباني التاريخية المتضررة من الفيضانات في وادي حضرموت،
ومنذ ذلك الحين أسهمت في ترميم مواقع تراثية في مناطق متفرقة، من بينها مساجد ومعالم تاريخية في عينات وساه وشبام والمكلا.
وتوسّع نشاطها ليشمل مختلف أنماط البناء التقليدي، لا سيما العمارة الطينية التي تميز حضرموت، مع الاعتماد على حرفيين محليين حافظوا على هذه المهارات عبر الأجيال.
مناقب صاحب القصر
عُرف السلطان علي بن صلاح القعيطي، الذي شُيّد القصر في عهده، بثقافته الواسعة وحضوره الفكري في مجالات الزراعة والسياسة والمعرفة، وكان شخصية مؤثرة في المشهد المحلي خلال النصف الأول من القرن العشرين.
وُلد عام 1898 في قرية خُرير قرب الهجرين، وتوفي عام 1948 في مدينة القطن، وهو حفيد مؤسس السلطنة القعيطية الكبرى، عمر بن عوض القعيطي.
تلقى تعليمه الأولي في القطن، وبرزت عليه علامات النباهة منذ صغره، بحسب المؤرخ صلاح البكري الذي زامله في الكتّاب.
ويشير الباحث علي اليزيدي إلى أن السلطان علي هو الوحيد بين سلاطين القعيطي الذي وُلد ونشأ في حضرموت، ولم يغادرها،
وقد امتلك مكتبة نادرة ضمّت مخطوطات تاريخية، من بينها "السيرة المتوكلية" التي تعود إلى القرن السابع عشر، إضافة إلى وثائق حول نشوء السلطنة القعيطية واتفاقيات صلح تاريخية بين القبائل.
رمز السلطنة ومقرها الرسمي
يؤكد مدير مديرية القطن، عبد اللطيف النقيب، أن القصر الذي شُيّد عام 1932 بأيدٍ حضرمية ماهرة بقيادة المعلم فرج باسباع وأخيه خميس،
كان مقراً رسمياً لحكم السلطان علي بن صلاح في وادي حضرموت، وشهد توقيع اتفاقيات سلام بين القبائل، واستقبال شخصيات من السلطنات المجاورة، إلى جانب مستشرقين وباحثين غربيين مثل فريا ستارك وويليام إنجرامز.
ويشير النقيب إلى أن مشروع الترميم الذي انطلق في مارس (آذار) 2023 تم تنفيذه بأيادٍ محلية وبدعم من مؤسسة (ALIPH)، بإشراف مؤسسة دوعن. ويهدف المشروع إلى إعادة القصر ليكون مركزاً ثقافياً وفنياً يعكس تراث حضرموت.
كما ثمن دور الشيخ عبد العزيز القعيطي في متابعة مراحل الترميم.
وختم بالتأكيد على أهمية وضع آلية مناسبة لاستثمار القصر في الأنشطة الثقافية والفنية، بما يضمن حمايته من التآكل والعوامل الطبيعية، واعتباره امتداداً لاهتمام الأجيال المتعاقبة بالإرث المعماري والتاريخي في حضرموت.
جمال شنيتر
صحافي ومراسل تلفزيوني