
ثورة فيزيائية.. الضوء الذي صار سائلاً وصلباً
لطالما اعتُبر الضوء مجرد موجة كهرومغناطيسية تنتقل في الفضاء، تُمتص وتنعكس، دون كتلة أو حجم.
لكن سلسلة من الاكتشافات العلمية المذهلة في السنوات الأخيرة قلبت هذه المفاهيم رأساً على عقب، لتكشف عن وجوه جديدة للضوء: كسائل، وكتيار بلا مقاومة، بل وكبنية صلبة تتدفق!
مرحباً بكم في عالم جديد من فيزياء الضوء، حيث تتلاشى الحدود بين المادة والطاقة.
الضوء كسائل: من الخيال إلى المختبر
طوال قرون اعتدنا على أن الضوء هو مجرد موجة تنتشر في الفضاء، تنعكس وتمتص، لكن بحثاً من جامعة "فيغو" الإسبانية كشف أن الضوء يمكن أن يتحوّل إلى سائل حقيقي، ينقسم إلى قطرات، ويرتد عن الأسطح كما تفعل المياه!
بحسب الفريق بقيادة هامبرتو ميتشينيل، فإن الضوء يمكن أن يُعامل كغاز، يُكثَّف لاحقاً إلى سائل، باستخدام مواد "غير خطية" تؤثر على سرعة الضوء حسب شدته، وفق مجلة "نيو ساينتست".
المذهل أن هذا "الضوء السائل" يمتلك توتراً سطحياً، تماماً كسوائل الماء والزيت، ويتفتت إلى قطرات صغيرة عند ارتداده عن الحواجز.
السيولة الفائقة
في تطور أحدث استطاع باحثون من إيطاليا وكندا وفنلندا إنتاج ما يُعرف بـ"السائل الفائق" من الضوء، وهي حالة فيزيائية يتدفّق فيها الضوء حول الأجسام دون أي مقاومة.
والجديد أنهم أنجزوا ذلك في درجة حرارة الغرفة، وليس عند درجات تقترب من الصفر المطلق كما هو المعتاد في مثل هذه الظواهر.
استخدم الباحثون طبقة عضوية رقيقة محصورة بين مرآتين فائقتي الانعكاس، ما سمح بتكوين جسيمات "بولاريتون" الهجينة بين الضوء والمادة، والتي تشبه في سلوكها الموصلات الفائقة، وفق موقع "لايف ساينس".
المادة الصلبة الفائقة
في العام 2023، نجح علماء في توليد مادة صلبة فائقة من الضوء للمرة الأولى في التاريخ. قد يبدو تناقضاً أن تكون المادة صلبة وسائلة في آنٍ معاً، لكنها بالفعل كذلك، فهي تحافظ على شكل بلّوري منتظم، لكنها تتدفّق بلا احتكاك، تماماً كالسائل الفائق، بحسب موقع "إيكوتيثياس" البيئي.
لكن كيف فعلوها؟
وفق موقع "لايف ساينس" استخدموا شبه موصل من زرنيخيد الغاليوم والألمنيوم، وعرّضوه لضوء ليزر، مما أنتج بولاريتونات، هذه الجسيمات الهجينة بين الضوء والمادة، والتي شكّلت في النهاية هذه "المادة الصلبة الفائقة".
المستقبل الضوئي للتقنية
الضوء السائل والسائل الفائق والمادة الصلبة الفائقة ليست مجرد فضول علمي، بل قد تكون مفتاحاً لتقنيات مذهلة هي:
الحوسبة الضوئية: يُمكن استخدام "قطرات الضوء" كـ"بتات" في دوائر ضوئية، أسرع بكثير من الإلكترونيات الحالية.
الموصلات الضوئية الفائقة: لنقل الإشارات دون خسارة، مما يُحدث ثورة في سرعة الإنترنت وتخفيض الطاقة المستهلكة.
خلايا شمسية أكثر كفاءة: عبر استغلال تدفق الضوء الفائق داخل المواد.
مواد تشحيم مستقبلية: لا تعتمد على الزيت، بل على مواد ضوئية تنساب بلا احتكاك.
ماذا يعني هذا؟
إذا استطعنا تسخير الضوء ليس فقط للإضاءة أو الاتصالات، بل كوسيط مادي يمكن تشكيله، وتوجيهه، بل وتصنيعه، فنحن أمام ثورة في المواد الذكية والفيزياء التطبيقية، من تحريك الأشياء بالضوء إلى إنشاء "هياكل ضوئية" داخل الجسم البشري، وربما استخدام الضوء في "طباعة" أشياء ثلاثية الأبعاد.
لكن، كما هو الحال مع كل اكتشاف ثوري، تظهر تحديات التحكم الدقيق بهذه الحالات الضوئية؛ والتكلفة العالية لتوليدها، وحدود استقرارها، فهل سنرى يوماً هواتف أو حواسيب تعتمد على الضوء السائل؟ أم أن هذه التقنيات ستبقى حبيسة المختبرات؟
ختاماً، الضوء الذي كنا نعرفه كموجة ومصدر للوضوح، صار الآن مائعاً وربما صلباً فائقاً، هذه الاكتشافات ليست مجرد نظريات فيزيائية؛ إنها بوابة لمستقبل تتداخل فيه المادة والطاقة، وتندمج فيه الإلكترونيات والفوتونيات.