
مخاض الشرق الأوسط الجديد... غزة قلب العالم
تناول المفكر البريطاني، هالفورد ماكيندر، في نظريته الجيوسياسية، فكرة "قلب العالم"، معتبرًا أن السيطرة على أوراسيا، ولا سيّما المنطقة المحورية الممتدة من شرق أوروبا إلى وسط آسيا، هي مفتاح التحكم بالنظام العالمي.
لاحقًا، أعاد زبيغنيو برجنسكي رسم هذا المنظور من خلال نظرية "الهلال الأوراسي"، معتبرًا أن القوى العظمى لا بدّ أن تحكم قبضتها على المناطق المحيطة بأوراسيا لضمان السيطرة الاستراتيجية العالمية.
ويمكننا اليوم بناءً على معطيات الصراعات الجيوسياسية الراهنة أن نقول "قد بات قطاع غزّة قلب العالم الجديد"، بوصفه مركز اشتباكٍ مركّبًا يعكس تحولاتٍ عميقةً في طبيعة العلاقات الدولية.
إذ تُمثّل الحرب العدوانية على قطاع غزّة نقطة تحولٍ مركزيةٍ في الصراع الإقليمي والدولي، وبوابةً لصياغة شرق أوسطٍ جديدٍ، بما يتوافق مع الرؤى التي طرحها برنارد لويس بمفهوم "الشرق الأوسط الكبير"،
ورالف بيترز في فكرة "حدود الدم"، القائمة على إعادة رسم خرائط المنطقة على أسسٍ عرقيةٍ وطائفيةٍ، وتُفكك الدول والهويات الوطنية.
هذه الرؤى التي أكدها كذلك بنيامين نتنياهو في كتابه "مكانة بين الأمم"، ودونالد ترامب الذي صرح في الآونة الأخيرة بضرورة تغيير حدود سايكس بيكو بوصفها حدودًا غير عادلةٍ، ليست أفكارًا خياليةً، أو مؤامراتٍ بل هي خططٌ استراتيجيةٌ ترسم منذ زمنٍ بعيدٍ لضمان التفوق الأميركي والإسرائيلي في المنطقة، التي يتوجب إعادة رسم هوياتها وحدودها ضمن منظورٍ متطرفٍ لا يختلف كثيرًا عن الفهم النازي القائم على إمكانية إذابة الشعوب ومحوها من الوجود،
إذ كانت المصلحة الاستراتيجية تتطلّب ذلك، تمامًا كالإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحقّ أهل قطاع غزّة.
وهذه ليست مبالغة، فالمفكر رالف بيتزر نفسه أكّد ضمن دراسته حدود الدم، التي كانت المرتكز لأفكار الفوضى الخلاقة، والشرق الأوسط الجديد، أن: "هناك سرًّا قذرًا آخر من تاريخٍ يمتد لخمسة آلاف عام: التطهير العرقي يُجدي نفعًا".
إنّ صمود قطاع غزّة الراهن يحمل أبعادًا تتجاوز حدود القضية الفلسطينية، وتمس جوهر الصراع الاستراتيجي الإقليمي والدولي، ضمن هذا السياق سنقدم تحليلًا مقتضبًا لفكرة غزّة بوصفها قلب العالم الراهن عبر ثلاث مناظير أساسية، تعتمد عليها السياسات الخارجية الأميركية والإسرائيلية لصياغة الشرق الأوسط الجديد، هي: منظور الليبرالية الجديدة، منظور الواقعية الجديدة، ومنظور البنائية.
منظور الليبرالية الجديدة: غزّة تعوق الدمج الاقتصادي الإمبريالي
يرتكز التحول الجيوسياسي في الشرق الأوسط الجديد على ترتيباتٍ مؤسسية اقتصادية مستلهمة من النظرية الليبرالية الجديدة، تتجلى هذه الترتيبات في مشاريع كبرى مثل مشروع الخط الهندي- الأوروبي (IMEC)، الذي يهدف إلى ربط الهند بالخليج والشرق الأوسط ثمّ بأوروبا مرورًا بإسرائيل،
بالإضافة إلى مشروع "EastMed" لنقل غاز شرق المتوسط من إسرائيل وقبرص إلى أوروبا عبر اليونان. هذه المشاريع ليست مجرد مبادراتٍ تنموية، بل أدواتٍ استراتيجية إمبريالية لإعادة دمج المنطقة في بنيةٍ اقتصاديةٍ جديدةٍ تتمحور حول التفوّق الإسرائيلي.
في هذا السياق، تشكّل غزّة، وبالذات وجود المقاومة المسلّحة، عقبةً بنيويةً أمام تلك المشاريع، لما تمثّله من تهديدٍ أمنيٍ دائمٍ على استقرار البنية التحتية لنقل الغاز والطاقة، من وجهة النظر الأميركية والإسرائيلية.
كذلك الأمر فإنّ استمرار مقاومة أهل غزّة للاحتلال سوف يعوق إلى حدٍّ بعيدٍ إمكانية تطبيع العلاقات السعودية والإسرائيلية، التي كانت قاب قوسين أو أدنى قبل اندلاع حرب أكتوبر/تشرين الأول 2023.
يضاف إلى ذلك تحتوي شواطئ غزّة على حقولٍ نفطيةٍ غير مستثمرةٍ بعد، حاولت إسرائيل مرّات عدّة خلال السنوات الماضية استثمارها عبر اتّفاقياتٍ وتفاهماتٍ مع السلطة الفلسطينية برعايةٍ مصرية،
إلّا أنّ محاولات إسرائيل للهيمنة على الثروات الطبيعية في ساحل غزّة قد باءت بالفشل، بسبب رفض أهل غزّة القطعي تمرير مثل هذه الاتفاقات المشبوهة، التي تقوم على نزع ملكية الشعب الفلسطيني وحقّه في استثمار ثرواته بشروطه وفي صالحه الوطني.
ومن نافل القول إنّ تصفية حركات المقاومة في المنطقة، لضمان تنفيذ المشاريع سالفة الذكر، هي ركيزةٌ أساسيةٌ في الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى تقليص النفوذ الروسي والصيني في منطقة الشرق الأوسط والعالم، ومنع تصاعده إلى الحدّ الذي يشكل تهديدًا على دورها الإمبريالي الدولي.
منطور الواقعية الجديدة: غزّة تقارع أسطورة التفوق العسكري
مثّلت عملية السابع من أكتوبر، وما تلاها، صدمةً كبيرةً في الأوساط الإسرائيلية والأميركية، إذ أثبتت حركات المقاومة قدرتها على تنفيذ خططٍ عسكريةٍ هجوميةٍ ودفاعيةٍ متقنةٍ، ما يهدد مباشرةً المصالح الاستراتيجية الأميركية والإسرائيلية، من منظور سياسييها المتأثرين بالمنظور الواقعي الجديد القائم على ضرورة ضمان التفوق العسكري عاملًا أساسيًا من عوامل استمرار الهيمنة والسيطرة.
في ظلّ هذه الرؤية، تسعى الولايات المتّحدة وإسرائيل إلى سحق كل أنماط المقاومة الفلسطينية، وتصفية الدعم الإقليمي (من إيران وحزب الله وغيرهما)، مع منع أي اختراقٍ روسيٍ أو صينيٍ في المنطقة.
إذ تعي واشنطن أنّ صمود المقاومة في غزّة يوفر لخصومها الدوليين (روسيا والصين) فرصةً لتعزيز نفوذهم في الإقليم، وعاملًا محفزًا لاستغلال هذا الصمود من أجل إغراق أميركا وإسرائيل في وحل غزّة، كما حصل سابقًا في فيتنام.
المنظور البنائي: غزّة تتحدى تفتيت الهوية التحررية الوطنية
يرتكز المنظور البنائي في السياسات الخارجية على بناء الهويات الجماعية، والخطابات السياسية، ويستخدم أداةً لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، ليس عبر القوّة والسوق فقط، بل عبر تغيير الهويات والانتماءات.
إذ ترتكز السياسة الخارجية الأميركية والإسرائيلية منذ عقودٍ على تحويل القضايا الوطنية إلى صراعاتٍ داخليةٍ مميتةٍ. فلسطين ليست استثناءً إذ يعاد صياغة القضية الفلسطينية حسب هذا المنظور،
كما في قضية غزّة وحدها، أو قضيةٍ إنسانيةٍ منعزلةٍ، كما تعامل باقي مكونات العالم العربي على اعتبارهم جغرافياتٍ مستقلةً لا يجمعها مشروعٌ سياسيٌ، أو مصيرٌ مشتركٌ.
هذه السياسات تدفع نحو تفتيت "سايكس–بيكو" من الداخل، لا لإعادة توحيد المنطقة، بل لإدخالها في حروبٍ أهليةٍ هجينةٍ تُنهك الدول، وتُسهّل السيطرة عليها. ضمن هذا الإطار،
تأتي حرب غزّة خطوةً استراتيجيةً تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، على اعتبارها قضيةً وطنيةً تحرريةً، وتحويلها إلى قضيةٍ إنسانيةٍ تعامل ضمن أطر المساعدات والهدن المؤقتة، لا ضمن حقوق تقرير المصير، وتعزل عن محيطها العربي المفتت أصلًا،
والداخل بفعل تعزيز الهويات العرقية والطائفية في صراعاتٍ مميتةٍ. ولنا في ما يجري في اليمن والعراق وسورية ولبنان والسودان وغيرها من الدول خير دليلٍ على ذلك.
على النقيض من هذا التفتيت الهوياتي، الذي تسعى إليه الإمبريالية الأميركية والإسرائيلية تظهر المقاومة في غزّة عاملًا موحدًا للشعوب العربية، فالمقاومة ما زالت تنادي بهويةٍ فلسطينيةٍ جامعةٍ "من البحر إلى النهر"، وترفض التقسيم الطائفي البغيض بين سنةٍ وشيعةٍ،
إذ لم تعتمد مقاومة أهالي غزة على تقسيم شعوب المنطقة إلى سنة يجري التحالف معها، وشيعية تجري معاداتها، إنّما أعادت بناء هويةٍ تحرريةٍ إنسانيةٍ في الشرق الأوسط، تتعالى على التقسيمات الطائفية المشبوهة،
وتؤكّد تشبث السكان الأصليين بأرضهم ووطنهم من دون مساومةٍ.
إذًا غزّة اليوم، من مناظير متعددةٍ للسياسية الخارجية الأميركية والإسرائيلية، هي الشوكة الأقوى التي تعوق تحقيق أهداف هذه السياسات في الهيمنة والسيطرة. فغزّة لم تعد ساحة صراعٍ فلسطينيٍ-إسرائيليٍ فقط، بل عقدةً استراتيجيةً عالميةً تتقاطع عندها مصالح الهند، والخليج، وتركيا، وأوروبا، والصين، وروسيا، إلى جانب إسرائيل والولايات المتّحدة.
إن مصير هذه البقعة الصغيرة الجغرافية يحمل انعكاساتٍ هائلةً على مستقبل النظام الإقليمي والدولي، سواء في صياغة خريطة الشرق الأوسط، أو في تحديد من يملك زمام المبادرة في العالم المقبل: قوى الهيمنة التقليدية، أم قوى التحدي الصاعد، ما يجعلها بحقٍّ قلب العالم الراهن، ويجعل مقاومتها تحمل أبعادًا تتخطى حدود القضية الفلسطينية لتشمل مستقبل المنطقة كلها:
فإما الخراب والتقسيم والهيمنة الإسرائيلية والأميركية المطلقة، وإما الصمود والبناء والتنمية الشاملة لشعوب المنطقة.
مروان رضوان
كاتب فلسطيني