صدمة الأزمنة: اليمن بين وهج الماضي ودمار الحاضر
تتوالى الأزمنة كأمواج المحيط، يضرب بعضها بعضًا، وكل موجة تحمل في طياتها نكهة خاصة، وروحًا فريدة، وأدواتٍ لم يعرفها من سبقها.
هي دورة حياة لا تتوقف؛ يولد فيها الجديد من رحم القديم، وتتألق الحضارة بتراكم الخبرات وتناسل الأفكار.
لكل زمان أهله وسماته، طبيعته الخاصة التي تطبع كل شيء فيه، من طرقاته المعبّدة إلى أسواقه الصاخبة، ومبانيه الشاهقة، وحتى الأثير الذي تسبح فيه طائراته وتحلق فيه طموحاته.
تخيّل للحظة رجلًا فارق الحياة قبل قرن من الزمان، يوم كانت الحياة أبسط، والخطوات أبطأ، والمسافات أبعد.
لو أُعيدت إليه الروح اليوم، وفتح عينيه على صخب مدننا الحديثة، وضجيج سياراتنا التي لا تتوقف، وسرعة قطاراتنا التي تخترق الأرض، وأثير هواتفنا التي تربط القارات في لحظة، لشهق قلبه، ولتعثرت خطواته.
هل كان سيصدق أن هذا هو ذات الكوكب الذي عاش ومات عليه؟
لربما ظن أنه في حلم عميق، أو أنه قد تجاوز حدود الواقع إلى عوالم لا يعرفها إلا الخيال. سيرى أحفاده، الذين ربما تركهم أطفالًا صغارًا، قد غدوا كهولًا تكلل الشيب رؤوسهم،
وبيته الذي كان مأوى ذكرياته قد تحول إلى كومة من الركام، أو ربما حل محله بناء زجاجي شاهق.
المحيط الذي ألفه تبدل، والطرقات التي مشى عليها اختفت تحت طبقات الإسفلت والخرسانة.
سيشعر بالغربة، لا، بل بالانقطاع التام عن كل ما يعرف، ولن يقبل العيش في عالم يراه غريبًا عنه، لأنه فقد "روحه" فيه. هذه هي سنة الحياة، قدرها أن تتجدد، وأن تظل كل فترة مطبوعة بطابع زمانها ومكانها.
ونحن، أبناء هذا العصر الرقمي، الذين ألفنا سرعة الحياة، وتكنولوجيا المعلومات، وسهولة الاتصال، لو بُعثنا بعد قرن من الزمان، سنجد أنفسنا في ذات الموقف.
عالم غير عالمنا، وتقنيات تفوق خيالنا، وربما أشكال حياة لم تخطر لنا على بال. سنرى أبناءنا وأحفادنا قد اختفوا، ونساءنا قد واراهن التراب، وتلك الروح العاطفية الدافئة التي تربطنا بهم، وتجعل لحياتنا معنى، قد تبددت.
فكيف نقبل أن نعيش دون تلك الأرواح التي سكنت قلوبنا؟
هذا هو سر الحنين إلى ماضٍ، وسر رفض الفطرة لما يباعدها عن أحبتها. فسبحان الله الذي يغير الأحوال، ويقلب الأزمنة، ويجعل لكل فترة بصمتها الخاصة.
المفارقة المؤلمة، التي لا تخلو من سخرية سوداء، هي أن هذا المشهد الفلسفي العميق، وتلك الصدمة الوجودية التي قد تعصف بالبشرية جمعاء، قد لا تنطبق بالقدر ذاته على بقعة من الأرض تدعى اليمن.
في هذا البلد العتيق، الذي كُتب التاريخ على جدرانه، وتناثرت آثاره شواهد على عظمة غابرة، ربما لو عاد الموتى من ترابها، لن يصدموا بواقع عصرنا هذا بالقدر المتوقع.
لن يذهلهم تطور التكنولوجيا في مدننا، فهم سيجدون شوارعها القديمة ما زالت تُسقى بماء التاريخ لا زحمة العصر، ومبانيها الطينية تحكي ذات القصص التي تركوها.
قد لا يرون في هواتفنا الذكية أو طائراتنا المحلّقة ما يستدعي الدهشة، فجل ما ألفوه من تبدل كان بطيئًا، وكأن الزمن فيها قد أبطأ خطاه.
لكن الصدمة الحقيقية، والوجع الذي سيعصر قلوبهم، لن يكون في التطور أو غيابه، بل سيكون في الخراب المريع الذي حل بالبلاد، في الدمار الذي طال كل حجر وشجر،
فالمساجد العتيقة التي كانت قبلتهم صارت أطلالًا، والأسواق الصاخبة التي كانت نبض حياتهم باتت خاوية إلا من أصداء البؤس.
أما نهب الآثار، التي كانت تحكي قصص أجدادهم وتُخلد وهج ماضيهم، فإنه الطعنة الأعمق في روحهم.
سيجدون البلاد قد أصبحت مجرد خامة، كما تركوها، لكنها خامة ممزقة، مثخنة بالجراح، تسيل منها دماء الماضي والحاضر.
هذا هو الوجع الذي يفوق صدمة التطور؛ إنه وجع التراجع والانحدار، وجع ضياع الهوية والتاريخ،
وجع أن تعود لترى بيتك الذي تركته مزهرًا قد أصبح ركامًا لا مأوى فيه، وأهلك قد تشتتوا في أصقاع الأرض.
في هذه الأرض، قد لا يجد الموتى ما يدهشهم من تقدم، بقدر ما يصدمهم ما حل ببلادهم من تراجع ينسف كل وهج الماضي الذي كانوا يعرفونه.
في خضم هذا التغير المستمر، الذي يطوي الأزمنة ويجدد الوجوه، يبقى الإنسان في محاولته لفهم موقعه بين الأمس واليوم والغد.
فهل نحن مدعوون للتكيف مع كل موجة تغيير، أم أن هناك جذورًا يجب أن نتمسك بها، خاصة عندما يتعلق الأمر بكرامة الأوطان وسلامة تاريخها؟
سؤال يظل معلقًا في فضاء الزمان، ينتظر منا الإجابة، أو على الأقل، أن نتمعن في دمعة الزمن التي تسقط على ماضٍ مجيد وحاضر مؤلم.