
بيوت العنكبوت أوهن من دعايتها!
كل ما بُني على الوهم والشعارات، لا على المنجز والتنمية، لن يصمد طويلاً أمام أول اختبار حقيقي، مهما تجمّلت دعايته، وتكاثرت لافتاته، وعلت أصواته… فالوهم، مهما ترسّخ وتضخّم، نهايته كسرٌ عميق، وخسائر فادحة لا تُجبر بسهولة.
المشهد الإيراني اليوم ليس سوى فصلٍ مكرر من رواية سبق أن عشناها مراراً في منطقتنا، وإن تغيّرت الأسماء وتفاوتت الطموحات.
فقبل أكثر من عقدين، كان صدام حسين يتوعّد الأميركيين بـ"أم المعارك"، ويهددهم بالويل والدمار، فإذا بجيشه يفر، وإذا بالمنطقة الخضراء محتلة خلال أيام…
أما القذافي، فرفع شعارات وتنظيرات "الزحف المقدّس" لعقود، ليرحل في مشهد مأساوي وسط أنبوب تصريف، فيما بلاده تغرق في فوضى ممتدة لم تنتهِ حتى اليوم.
بينما في سوريا، حيث بدا المشهد أكثر فجاجة، ظلّ بشار الأسد يرفع شعارات "الممانعة"، وإذا به يهرب من بيته في جنح الظلام، فارّاً بحياته.
وكذلك التنظيمات المتطرفة التي هددت وزايدت وملأت الدنيا ضجيجاً، ثم تبخّرت بعد أن انكشفت هشاشتها البنيوية، وانفصالها التام عن الواقع، وكانت مجرد ظواهر صوتية تلاشت عند أول امتحان ميداني، وانهارت فوق رؤوس قادتها ومنظريها الكهوف والأنفاق.
وكذا "حزب الله"، الذي ظل يقدم نفسه كـ"قوة لا تُقهر"، يعيش اليوم حالة انكشاف غير مسبوقة، وما إن انتهت أدواره المرحلية، حتى اصطادته إسرائيل بضغطة زر، فاغتالت مئات من قياداته، ثم أمينه العام، في رسالة فاضحة لهشاشة التنظيم مهما تعاظمت شعاراته.
وكذا الحوثي في اليمن الذي يجسّد بشكل مأساوي كيف يمكن لحركة أن تحوّل بلداً كاملاً إلى ركام، باسم شعارات فارغة ومعارك عابرة للحدود، لم يرَ منها اليمنيون سوى الدمار والفقر والشتات.
واليوم، نعيش المشهد ذاته مع النظام الإيراني. تتساقط قياداته خلال ساعات، وتُدمّر منشآته التي أُنفقت عليها مئات المليارات من دون أن تنجح دفاعاته في اعتراض المسيرات أو احتواء الصواريخ الدقيقة.
وبينما يتغنّى إعلامه بالقوة والصمود، تتكشف هشاشة بنيته الأمنية والعسكرية، ويظهر أنها لم تكن سوى بيت عنكبوت… أوهن من دعايته.
المعضلة لا تكمن في سلاحٍ لم يصمد، أو منشأة لم تُحمَ، بل في مشروعٍ بأكمله اختار أن يستثمر في الحروب والتدخلات، بدل أن يستثمر في الإنسان والتنمية.
مشروع أرهق شعبه والمنطقة، وأدخل دولة ذات حضارة عريقة في متاهة الصراعات والأوهام التوسعية، على حساب مستقبل مواطنيها.
ومن المؤلم أن تملك إيران هذه الإمكانات، ثم تهدرها على مغامرات عبثية في العراق وسوريا واليمن ولبنان وغيرها… تمدّ أذرعها في كل اتجاه، وتُشعل معارك لا طائل منها، بينما الداخل يزداد اختناقاً.
طموحات عابرة للحدود، قاتلة، لم تُنتج سوى الخراب والانهيار الاقتصادي، وأودت بملايين البشر، ودمرت أوطاناً، وأنهكت شعوباً، ثم انتهت كما بدأت "صخب بلا نتيجة"…
والتاريخ مليء بأدوات وظيفية تم حرقها فور انتهاء صلاحيتها، حيث تدير القوى الكبرى علاقتها بهذه الأنظمة والتنظيمات بمنطق المصالح لا المبادئ، تُبقي عليهم ما داموا يخدمون أهدافها، وتُضخّم أدوارهم حين تقتضي الحاجة، ثم تلفظهم...
وحتى اللحظة، لا تزال تلك القوى تُغريهم بالتصعيد، وتدفعهم إلى حافة الانفجار، في محاولة لإقناع العالم الغربي بالانخراط ميدانياً، بزعم أن أمن إسرائيل بات على المحك.
وهنا، من الخطأ أن نُفرّط في المواقف أو نُجامل… فالنظام الذي يسعى لامتلاك سلاح نووي يمثّل تهديداً حقيقياً لنفسه قبل جيرانه، حيث لا يمكن الوثوق بنظام تقوم عقيدته على تصدير الفشل وخراب المزيد من العواصم...
والقلق هنا ينبع من واقع مرير فرضه النظام على الداخل والمحيطين به، فلا أحد يتمنى لإيران الدمار، لكن القيادة هناك هي من اختارت طريق المغامرة، وأغلقت أبواب الإصلاح، وأصرّت على كسر قواعد التوازنات الإقليمية.
حتى لو بقي النظام بعد هذه الحرب، فإن الدولة ستعود عقوداً إلى الوراء، اقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً. ستواجه خسائر لا تُرمم ونزيفاً داخلياً يصعب إيقافه.
ولن تجدي الشعارات ولا حملات العلاقات العامة، فالكلفة هذه المرة باهظة، والدمار شامل، بل إن الخطر الحقيقي أن يرتدّ النظام الإيراني على اليد التي ساعدته ليسترد كبرياءه، الذي أذلّته اليد الأخرى التي فشل في مواجهتها…
ولنا في ارتداد صدام عبرة لا تُنسى، حين عاد لينقلب على من وقف معه.
لقد انتهى زمن المشاريع والمزايدات الفارغة، وأصبح العالم أكثر وعياً بحقيقة الشعارات التي لا تصمد أمام الواقع ومتطلباته العملية...
فلم يعُد الشرق الأوسط ساحة للخطابات، ولا للمغامرات، بل لصوت العقل والتنمية والشراكات التي تُبنى على المصالح لا على الأوهام.
عادل الحربي
كاتب وصحافي سعودي